تشير التطورات الاخيرة في سوريا الى انّ الثورة الشعبية التي يشهدها هذا البلد العربي المهمّ لا يمكن ان تتوقّف. لم يعد السؤال بعد سنة ونصف سنة على الثورة هل سينتصر السوريون على النظام الذي استعبدهم واذلّهم طوال ما يزيد على اربعة عقود. سينتصر الشعب السوري حتما على الرغم من كلّ الدعم الايراني والروسي للنظام. لكنّ السؤال كيف ستخرج سوريا من المواجهة التي يخوضها شعبها مع جلاد لا يرحم يعتقد ان الانتصار على لبنان واللبنانيين بديل من الانتصار على اسرائيل، او اقلّه استعادة الجولان، وانّه في حال صار ذلك هدفا مستحيلا، لا عيب في استكمال الانتصار على سوريا والسوريين متى كان مثل هذا الانتصار يحقق الهدف المنشود.
الهدف المنشود هو بقاء سوريا تحت هيمنة العائلة الحاكمة وفروعها من جهة وتحولها شيئا فشيئا الى مستعمرة ايرانية من منطلق مذهبي من جهة اخرى. هذا كلّ ما في الامر. وهذا ما يفسّر الاعتماد منذ البداية على الحل العسكري القائم على الغاء الاخر، اي الغاء الشعب السوري في حال اصراره على استعادة كرامته وحرّيته.
بعد ثمانية عشرة شهرا على اندلاع الثورة السورية، وفي ضوء المواجهات الاخيرة التي تميّزت بالمجازر والقصف العشوائي للمدن بواسطة المدفعية وسلاح الجوّ، خصوصا بعد انضمام اهل دمشق وحلب الى الثوّار، في الامكان القول ان النظام اختار الطريق الثالث. يأتي ذلك بعد فشل quot;الخطة الفquot; والخطة باءquot;.
قبل الانتقال الى شرح ما هو الخيار الثالث، لا بدّ من الاشارة الى انّ quot;الخطة الفquot; كانت تقوم على نشر الرعب في كلّ انحاء سوريا عن طريق التذكير بما حلّ بحماة في العام 1982، مع التشديد يوميا على ان سقوط النظام يعني سقوط سوريا. لذلك، كنا نجد، ولا نزال نجد، ان ادوات النظام السوري في لبنان، وادوات الادوات من مستوى النائب المسيحي ميشال عون، لا يتحدّثون عن النظام، بل يصرّون على ربط مصير سوريا به وكأن النظام، الذي لا يمتلك اي شرعية من اي نوع، كان في اساس نشوء الكيان السوري الحالي وهو ضمانة استمراره... كما انه ضمانة لبقاء لبنان وعدم تهجير مسيحييه!
لم تنفع quot;الخطة الفquot;. تبيّن ان السوريين، بعدما كسروا حاجز الرعب والخوف، على استعداد لبذل الرخيص والغالي للتخلّص من النظام الذي حوّل بلدا غنيّا الى صحراء قاحلة وشعبا خلاقا الى مجرد شعب مستعبد لا هم له سوى البحث عن لقمة العيش فيما الملايين تتكدس في حسابات ارباب النظام والمحيطين بهم.
اما quot;الخطة بquot;، التي كان لا بدّ من اللجوء اليها، فكانت تقضي بالاعداد للانتقال الى quot;الجيب العلويquot; على الساحل السوري. هذا quot;الجيبquot; يمكن ان يشكل نواة لدولة علوية مستقلة تكون بديلا من سيطرة النظام، الذي اسّسه الراحل حافظ الاسد، على سوريا كلّها بمدنها ذات الاكثرية السنّية مثل دمشق وحلب وحمص وحماة وادلب ودرعا ودير الزور.
اصطدمت quot;الخطة بquot; بصمود حمص المدينة المحورية التي تربط بين الداخل السوري والساحل اضافة الى تحكمها، جغرافيا، بشبكة الطرق في البلد. الاهمّ من ذلك، تبيّن ان نسبة لا تقلّ عن ستين بالمئة من سكان اللاذقية من اهل السنّة. والى اشعار آخر، تظلّ اللاذقية، المرشحة لان تكون عاصمة الدولة العلوية، المدينة الاهمّ على الساحل السوري. هل يمكن ازالة حمص واللاذقية من الوجود كي يصبح في الامكان الانتقال عمليا الى مشروع quot;الدولة العلويةquot;؟
في ظلّ هذه المعطيات التي لم تدخل في حسابات نظام استسهل في البداية تطبيق quot;الخطة الفquot; ثم quot;الخطة بquot;، صار الخيار الثالث واردا. انه وارد خصوصا في ذهن الذين يدعمون النظام القائم بكلّ ما لديهم من امكانات. على راس هؤلاء ايران وروسيا...وربّما اسرائيل التي لا تزال تتخذ موقفا quot;محيّراquot; على حدّ تعبير مسؤول عربي كبير يراقب طريقة تصرفها عن كثب.
يقضي الخيار الثالث باطالة النزاع في سوريا قدر الامكان بغية خلق حال من الفوضى وتكريس الانقسامات الطائفية والمذهبية بغية استمرار الحرب الاهلية في البلد ومنع المرحلة الانتقالية. هذه المرحلة التي تؤمن قيام نظام مدني عصري ديموقراطي يستند الى المؤسسات ويضمن المساواة بين السوريين بغض النظر عن انتمائهم الديني او المذهبي او المناطقي.
انه النظام المدني الذي يعيد سوريا الى الحضن العربي بعيدا عن الشعارات والمزايدات وquot;الممانعةquot; وquot;المقاومةquot; التي لا تصبّ الاّ في خدمة اسرائيل. مثل هذا النظام يمتلك عدوا معلن هو ايران في الدرجة الاولى وروسيا في درجة اقلّ.
من هنا، لم يعد الخوف على سوريا من النظام نفسه. الخوف صار من الخيار الثالث الذي تلعب ايران الدور الاساسي في الترويج له خوفا من سوريا العربية، بالمعنى الحضاري للعروبة طبعا وليس عروبة البعث وما شابه ذلك، اي عروبة الشعارات التي تعني التخلف والقمع والاستبداد والعنصرية ولا شيء آخر غير ذلك من قريب او بعيد.
ففي سوريا العربية المتصالحة مع نفسها اوّلا والمتفاهمة مع محيطها والمنفتحة عليه، بعيدا عن كل انواع quot;التشبيحquot; وسياسات الابتزاز والترهيب، لا يعود وجود لقوة ذات اطماع اقليمية، مثل ايران، تسعى الى الهيمنة عن طريق اثارة الغرائز المذهبية واستخدام الميليشيات المحلية التابعة لها، كما الحال في اراضي سوريا ولبنان والعراق.
حمى الله سوريا من الخيار الثالث الذي لم يعد امام ايران بديلا منه من اجل المحافظة على بعض النفوذ في سوريا، كي تبقى ممرّا لنقل السلاح الى الميليشيا المذهبية التي ترعاها في لبنان، ولو من خلال حرب اهلية طاحنة وفوضى داخلية لا حدود لها...