من اطرف ما نشهده هذه الايّام تحذيرات يطلقها بين حين وآخر هذا السياسي او المسؤول، او غير المسؤول، العربي او ذاك. تركّز هذه التحذيرات على quot;الخوفquot; من سايكس- بيكو جديد في الشرق الاوسط. يتحدّث هؤلاء في تحذيراتهم عن وجود نية دولية لاعادة رسم حدود الدول القائمة في المنطقة وانشاء كيانات جديدة، تماما كما حصل في مرحلة ما بعد العام 1916، تاريخ التوصّل الى سايكس- بيكو. وقتذاك، اعادت بريطانيا وفرنسا تشكيل الشرق الاوسط في وقت كانت الدولة العثمانية في طريقها الى الانهيار.
الملفت في سايكس- بيكو الاصلي انه جاء قبل سنة من صدور وعد بالفور في العام 1917. يشير ذلك الى ان قرار التقسيم الصادر في العام 1947، الذي كان في اساس قيام دولة اسرائيل على قسم من ارض فلسطين، يشكّل جزءا لا يتجزّأ من القرار القاضي بتشكيل الكيانات السياسية الجديدة في المنطقة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
لم يفهم العرب، عموما، معنى قرار التقسيم فرفضوه وراحوا، بعد ذلك، يترحمون عليه. فعلوا ذلك وما زالوا يفعلونه بعدما فشلوا في استيعاب معنى التحولات التي شهدها العالم في السنوات الممتدة بين انتهاء الحرب العالمية الاولى والحرب العالمية الثانية وصولا الى اتفاق يالطا وقيام قوتين كبيرتين ثم انتهاء الحرب الباردة مع انهيار الاتحاد السوفياتي.
في ظلّ سايكس- بيكو الاصلي، توسّعت اسرائيل سكانيا وجغرافيا وتراجع العرب على كلّ المستويات. في اساس تراجعهم، اضافة الى عوامل اخرى كثيرة اخرى، الانقلاب العسكري الاوّل الذي شهدته سوريا في العام 1949 والذي شكّل التعبير الصارخ عن عمق ازمة الكيان التي يعاني منها هذا البلد. انها ازمة كيان معطوفة على ازمة نظام زادت حدتها مع وصول حافظ الاسد الى السلطة في العام 1970 وبداية سيطرة الاقلية العلوية على كلّ مفاصل السلطة بغطاء من سنّة الارياف والاقليات الدينية، بمن في ذلك بعض المسيحيين والدروز. وقد انضمت الى داعمي النظام السوري في الفترة الاخيرة مجموعات اثنية مثل الارمن، على سبيل المثال وليس الحصر.
ما نشهده اليوم في سوريا، حيث حرب اهلية بكلّ معنى الكلمة، ليس نتيجة من نتائج سايكس- بيكو بمقدار ما انه نتيجة رفض الاستفادة من سايكس- بيكو. وعندما يتحدّث اي مسؤول عربي او لبناني عن خطورة سايكس- بيكو، فانّ هذا المسؤول يسعى بطريقة او باخرى الى القفز عن الواقع من جهة وتجاهل مسؤولية النظام السوري، الذي انتهى نظاما عائليا بحتا، عمّا آلت اليه الاوضاع في المنطقة من جهة اخرى.
ليست سوريا وحدها المسؤولة عن تردي الوضع الاقليمي وما يمكن تسميته الفشل في قيام دولة سورية طبيعية وقابلة للحياة في اطار ما يسمّى منطقة الهلال الخصيب. هناك ايضا التأثير السلبي لمصر على المشرق العربي كلّه وحتى على منطقة الخليج وشمال افريقيا والسودان. صارت مصر بعد حكم العسكر الذي امتد ستة عقود تتأثر بكلّ انواع التخلف في المنطقة. بلغ التدهور في مصر ان quot;الامارة الطالبانيةquot; التي اقامتها حركة quot;حماسquot; في غزة صارت في ايّامنا هذه تؤثر في القاهرة والاسكندرية وليس العكس...
بدل التحدث عن مساوئ سايكس- بيكو، والتحذير من سايكس- بيكو جديد، من الافضل مواجهة الحقيقة المتمثلة في ان العرب في منطقة المشرق اضاعوا كلّ الفرص التي توافرت لهم منذ استقلال دولهم. لم يحسنوا الاستفادة من سايكس-بيكو. وهذا عائد الى سبب في غاية البساطة يتمثل في انهم يرفضون، الى الآن، الاعتراف باخطائهم. على راس هذه الاخطاء رفع شعارات غير قابلة للتطبيق. كانوا وحدهم يصدقون هذه الشعارات وينتهون ضحية لها.
يفترض في من يحذّر من سايكس- بيكو جديد، في سياق الدفاع عن النظام السوري والخوف عليه من مصيره المحتوم، ان يسأل نفسه: هل الكيان السوري بشكله الحالي في حاجة الى مزيد من الارض ام انه في حاجة الى نظام ديموقراطي يحافظ على ثروات البلد بدل تبديدها ويحافظ قبل كلّ شيء على السوريين؟
ما نفع الشكوى من سايكس- بيكو عندما يكون هناك نظام سوري لا يعير اي اهمية للتعليم ولمستوى الجامعات والمدارس والبرامج التربوية عموما؟ هل المشكلة في سايكس- بيكو ام في التأميم الذي هجّر كل الكفاءات السورية من سوريا؟ هل المشكلة في سايكس- بيكو ام في نظام يدّعي الدفاع عن القضية الفلسطينيية... الى ان تبيّن انّه قتل من الفلسطينيين اكثر بكثير مما قتلت اسرائيل؟ هل المشكلة في سايكس- بيكو ام في نظام يدّعي محاربة التطرف الديني في الداخل، فاذا به يصدّر السلاح الى لبنان دعما لكل انواع التطرف من ايّ نوع كان؟
بلغت الوقاحة بهذا النظام الاعتماد الكلي على ميليشيا مذهبية لبنانية تابعة كلّيا لايران في عملية ضرب الاستقرار في الوطن الصغير معتقدا ان ذلك سينقذه من غضب الشعب السوري.
لم تكن المشكلة يوما في سايكس ndash; بيكو او معه. المشكلة كانت في كلّ وقت عربية. المشكلة في العجز عن الاعتراف بأنّ الانتصارات الوهمية لا تبني دولا، بل تقود الى مزيد من الهزائم. اوّل ما تقود اليه مثل هذه الانتصارات الاعتقاد ان النظام السوري quot;مقاومquot; وquot;ممانعquot; في حين ان الشعار الحقيقي الوحيد الذي رفعه دائما هو ان الانتصار على لبنان بديل من الانتصار على اسرائيل. ربّما آن اوان اضافة ملحق الى هذا الشعار هو ان الانتصار على سوريا والسوريين هو الخيار الوحيد المتوافر امام العائلة الحاكمة. ما ذنب سايكس ndash; بيكو بنسختيه القديمة والجديدة... هذا في حال ستكون هناك نسخة جديدة في يوم من الايّام؟