قبل تسع واربعين سنة، في الثامن من آذار- مارس 1963، سقطت سوريا تحت حكم البعث الذي كان نفّذ قبل ذلك بشهر انقلابا في العراق لا يزال البلد يعاني من نتائجه السلبية حتى يومنا هذا.
استكمل الانقلاب البعثي الاوّل في العراق عملية القضاء على اي امل باستعادة البلد لوجهه الحضاري ومؤسسات الدولة التي دمرها المجرمون الذين انقلبوا على النظام الملكي في الرابع عشر من تموز- يوليو 1958.
اما في سوريا، فقد استكمل الانقلاب البعثي بدوره عملية القضاء على ايّ امل بعودة سوريا الى الحياة الديموقراطية واعادة بناء مؤسسات الدولة المدنية بديلا من التركيز على المؤسسات الامنية. تلك المؤسسات التي تطورت وتضخّمت في ظلّ الوحدة التعيسة مع مصر. تبيّن مع مرور الوقت ان تلك الوحدة لم تكن سوى وحدة بين اجهزة المخابرات والقمع والبطش في الدولتين راح ضحيتها المصريون والسوريون.
كان الثامن من آذار 1963 يوما مشؤوما في سوريا. تطوّر حكم البعث من حكم مدني الى حكم عسكري يستبعد الضباط الآتين من المدن الكبرى، على راسها دمشق، لمصلحة ضباط الريف الراغبين في الانتقام من المدينة. في خلال اقلّ من ثلاث سنوات، استطاع الضباط العلويون على راسهم محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الاسد الاستئثار بالسلطة، الى ان جاء اليوم الذي تخلّص فيه الاسد من عمران ثم من جديد واحكم قبضته على السلطة وانفرد بها. اعتمد في البداية على مظاهر الاعتدال ورفض الشعارات اليسارية التي جعلت العرب عموما، في مقدمهم المملكة العربية السعودية، ينفرون وقتذاك من سوريا.
ظهر مع مرور الوقت ان النظام السوري الذي نشأ عن انقلاب الثامن من آذار 1963 لم يتغيّر قيد انملة. كلّ ما في الامر ان حافظ الاسد استطاع ابتداء من توليه الحكم في خريف العام 1970 ابتكار وظيفة جديدة لسوريا بدأت بايجاد توازن بين البعثين السوري والعراقي. تطوّر هذا الدور مع وصول صدّام حسين الى الرئاسة في العراق في العام 1979 ودخوله في حرب مع ايران. امتلك الاسد الاب منذ 1979 مزيدا من الاوراق استخدمها في المجالين اللبناني والفلسطيني، خصوصا بعدما وقف الى جانب ايران- الخميني في حربها مع العراق.
ما زاد في اهمية سوريا الغباء المنقطع النظير للبعث العراقي. لم يستوعب البعث العراقي الذي كان عائليا ومناطقيا ايضا، اكان ذلك في ايام احمد حسن البكر او خليفته صدّام حسين، شيئا من النتائج التي ترتبت على حرب تشرين الاوّل- اكتوبر 1973 ولا اتفاق فصل القوات الذي توصلت اليه سوريا مع اسرائيل في العام 1974 ولا الاسباب التي دفعت انور السادات، حليف حافظ الاسد في حرب العام 1973، الى الذهاب الى القدس المحتلة والقاء خطاب في الكنيست في العام 1977.
لم يفهم حتى كيف استطاع حافظ الاسد اقناع هنري كيسينجر بالطرق المباشرة او غير المباشرة ان عليه توفير الضوء الاخضر الاسرائيلي للجيش السوري كي يدخل الاراضي اللبنانية بحجة ان المطلوب quot;وضع اليد على مسلحي منظمة التحرير الفلسطينيةquot; تفاديا لنزاع اقليمي.
في البدء، كان انقلاب الثامن من آذار والعقلية المتخلفة التي تحكّمت بالذين نفّذوه. كان الهدف السلطة ولا شيء آخر غير السلطة. من اجل الاحتفاظ بالسلطة، كان مطلوبا تدجين الشعب السوري ثم اختلاق قضايا quot;قوميةquot;، كي يهرب حاكم سوريا الى خارج باستمرار. لم يكن لدى حاكم سوريا، اي حافظ الاسد بين 1970 و2000، ثم بشّار الاسد بين 2000 و2012 اي خيار آخر غير السعي الى الغاء الآخر في الداخل. ما الذي يستطيع عمله نظام يعاني من عجز عن حلّ اي مشكلة داخلية في سوريا من جهة ومن كونه يعاني من انه ليس سوى ممثل لاقلّية، ثم لمجموعة عائلية صغيرة جدا من جهة اخرى؟
في مواجهة مشاكله وازماته المعقدة التي تفاقمت ابتداء من العام 2003، عندما شنت ادارة بوش الابن حربها على العراق، لم يجد البعث السوري، بحلته الجديدة، مكانا يهرب اليه سوى لبنان. كان الاعتقاد السائد لدى بشّار الاسد ان النظام السوري سيكون قادرا على استعادة هيبته ودوره الاقليمي انطلاقا من الوطن الصغير. في البدء كانت جريمة التمديد للرئيس اللبناني اميل لحود، على الرغم من القرار 1559 الصادر عن مجلس الامن. جاء بعد ذلك اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في الرابع عشر من شباط- فبراير 2005 ، كذلك الجرائم الاخرى التي طالت اللبنانيين الشرفاء حقّا. في تلك المرحلة بالذات، جاء الثامن آذار اللبناني حين انزل quot;حزب اللهquot; الايراني عناصره وتوابعه الى الشارع لتغطية جريمة اغتيال الحريري وارهاب اللبنانيين وترويعهم نيابة عن النظام السوري...
كان الثامن من آذار اللبناني محاولة انقلابية بكل معنى الكلمة تندرج في سياق الثامن من آذار السوري. تكمن مشكلة النظام السوري في رفضه الاعتراف بان العالم تغيّر والمنطقة تغيّرت وسوريا تغيّرت. لم يعد ممكنا تكرار الثامن من آذار 1963 السوري في لبنان في الثامن من آذار 2005.
لم يدرك النظام السوري ان المقاومة الحقيقية في لبنان هي مقاومة اللبنانيين لثقافة الموت التي يحاول محور طهران-دمشق فرضها عليهم. رفض اللبنانيون تكرار الثامن من آذار على ارضهم. حطموا الثامن من آذار السورية ومحاولة تكرارها على ارضهم.
نقل اللبنانيون تجربتهم الحضارية، اي quot;ثورة الارزquot;، التي تجسّد قبل اي شيء آخر الانتماء الى ثقافة الحياة الى المنطقة، بما في ذلك سوريا. ففي لبنان تحطّم صنم الثامن من آذار السوري قبل ان يحطمه السوريون.
من بيروت، بيروت سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني وبيار امين الجميّل ووليد عيدو وانطوان غانم ووسام عيد والشهداء الاحياء مروان حماده والياس المرّ ومي شدياق، من ساحة الحرية التي اتسعت في الرابع عشر من آذار 2005 لنصف الشعب اللبناني، من كلّ الطوائف والمذاهب والمناطق والطبقات الاجتماعية، ينبلج فجر جديد للمنطقة.
انه فجر الحرية ولفظ ثقافة الموت. بين الذين يرسمون معالم هذا الفجر بكلّ شجاعة، شخص يرمز الى quot;لبنان اوّلاquot; اسمه سعد الدين رفيق الحريري. لم يتردد سعد الحريري لحظة، بكل جرأة ووضوح ليس بعده وضوح، في الوقوف مع الشعب السوري وثورته المجيدة التي ستعيد سوريا الى السوريين اوّلا. ستعود سوريا قلب العروبة النابض فعلا، العروبة الحضارية البعيدة عن كل متاجرة بالسوريين واللبنانيين والفلسطينيين وكلّ من تقع اليد عليه عن طريق الارهاب والترهيب...