من انتصر فعلا في انتخابات المغرب هو المغرب. خرج البلد منتصرا لانّه استطاع الانضمام الى الدول التي تمارس فيها الديموقراطية في ظل الدستور المعمول به، وهو دستور شاركت كل فئات المجتمع في صياغته واقرّ في استفتاء جرى في مطلع تموز- يوليو الماضي. من الافضل ان تكون المواجهة بين الخيارات السياسية المختلفة داخل مجلس النوّاب بدل النزول الى الشارع ما دام الحكم في كلّ موضوع وكلّ مسألة هو في نهاية المطاف صندوق الاقتراع وليس الشارع والمواجهات التي لا طائل منها.
مرّة اخرى، اظهرت مؤسسة العرش انها ضمانة للمغرب والمغاربة. باشرت مؤسسة العرش الاصلاحات منذ فترة طويلة في بلد يعتقد فيه الملك محمّد السادس ان الخطر الاكبر على الاستقرار يتمثل في الفقر وان الفقر في اساس التطرف وفي اساس كلّ علة.
ولذلك، لم يكن مستغربا ان يفوز حزب اسلامي معتدل هو quot;العدالة والتنميةquot; باكبر عدد من المقاعد في مجلس النواب. وهذا يعني في طبيعة الحال ان ممثلا لهذا الحزب، قد يكون امينه العام، سيشكّل الحكومة المقبلة. ونظرا الى هذا الحزب لم يحظ باكثرية مطلقة، سيكون مجبرا على التحالف مع احزاب اخرى بغية الخروج بحكومة معقولة ومقبولة تعكس الى حد ما التوجهات السائدة في اوساط الاكثرية الشعبية الحقيقية. هذه الاكثرية الحقيقية اكثرية مركّبة رفضت الى الآن الانحياز بشكل كامل الى خيارات حزب مثل quot;العدالة والتنميةquot; يسعى بفضل وجوه جديدة الى اثبات انه قادر على تحملّ مسؤوليات كبيرة من جهة وانه يوفّر خيارات اقتصادية واجتماعية تصبّ في مصلحة المواطن المغربي من جهة اخرى.
لعلّ اهم ما كشفته الانتخابات المغربية ان الملك محمد السادس وضع الاحزاب السياسية امام مسؤولياتها. تبيّن ان هناك احزابا كثيرة غير قادرة على التكيف مع الاصلاحات وتعبئة قواعدها بما يتلاءم معها. آن اوان ان يتحملّ كل حزب من الاحزاب مسؤولياته في حال كان هذا الحزب، مهما كان عريقا، مصرّا على متابعة مسيرته في المرحلة الجديدة التي دخلها البلد.
في كلّ الاحوال، كشفت تجربة المغرب ان هناك طريقة اخرى للتعاطي مع الاسلاميين بدل الدخول في مواجهة معهم. تقوم هذه الطريقة على خلق الاجواء الديموقراطية التي تسمح لهم بان يكونوا شركاء في تحمّل المسؤولية من جهة وان يتمكن الشعب من اختبار حقيقة الشعارات التي يطلقونها من جهة اخرى. في النهاية، عند الامتحان، يُكرم المرء او يهان، كما يقول المثل الشعبي. هل يستطيع الاسلاميون ان يكونوا شيئا آخر غير حملة الشعارات الفضفاضة؟
ادت الانتخابات المغربية الغرض منها. حفظت السلم الاهلي في البلد اوّلا في منطقة تسودها الاضطرابات. هذا انجاز ضخم لمحمد السادس الذي عرف كيف يقود السفينة الى شاطئ الامن بعيدا عن كلّ انواع المزايدات التي صدرت عن اطراف عدة لا تريد الخير للمملكة. كانت هذه الاطراف تريد صرف نظر العاهل المغربي عن الهموم الحقيقية للمغرب والمتمثلة في السير في الاصلاحات الى النهاية وخوض الحرب على الفقر وعلى كلّ ما له علاقة بالتخلف وما شابه ذلك.
ليس الملك وحده الذي خرج منتصرا. الديموقراطية خرجت منتصرة، او على الاصحّ العملية الديموقراطية التي صارت جزءا لا يتجزّأ من الحياة السياسية في المغرب. لم يعد مفرّ للاحزاب الساعية الى ان يكون لها مستقبل من التعاطي مع هذا الواقع الجديد.
ثمة منتصر آخر هو الشعب المغربي الذي اقبل على صناديق الاقتراع مظهرا انه يؤمن بالاصلاحات التي اقرّت. فنسبة المشاركة في الانتخابات جدّ معقولة على الرغم انها كانت خمسة واربعين في المئة تقريبا.
ما لا يمكن تجاهله ان الاقبال في انتخابات العام 2007 لم تتجاوز نسبته السبعة وثلاثين في المئة. هناك اذا تطور في اوساط المجتمع المغربي. يصب هذا التطور في اتجاه استيعاب اهمّية الاصلاحات الديموقراطية التي قادها محمد السادس كما يهمش الداعين الى مقاطعة الانتخابات مثل حركة quot;العشرين من فبرايرquot; التي يحركها عمليا ومن بعد متطرفون ينتمون الى جماعة quot;العدل والاحسانquot;. في النهاية، اثبت الشعب المغربي انه شعب واع وناضج وانه قادر على التمييز بين من يريد الخير للبلد ومن يسعى الى الاساءة الى مؤسسة العرش. تظلّ مؤسسة العرش الى اشعار آخر ضمانة للاستمرارية والرغبة في المحافظة على الاستقرار والتطور في اتجاه ربط المغرب بكل ما هو حضاري في العالم بعيدا عن اي نوع من العقد التي تتحكم بكثيرين...
ولكن يبقى سؤال في غاية الاهمية. ما الذي جعل quot;العدالة والتنميةquot; يحقق تقدما في الانتخابات ويحتل موقع الحزب الاوّل في البلد على حساب احزاب عريقة لديها تاريخ قديم مثل الاستقلال على سبيل المثال وليس الحصر؟ الجواب ان الاسلاميين عرفوا كيف يعبئون صفوفهم باكرا. كانوا يعون ان لا عودة عن الاصلاحات وان المغرب دخل مرحلة جديدة وان لا بدّ من اعتماد وسائل مختلفة تتلاءم وهذه المرحلة. تفادى quot;العدالة والتنميةquot; السجالات العقيمة مع الاحزاب الاخرى وانصرف الى ترتيب اوضاعه الداخلية والاستفادة الى ابعد حدود من الاصلاحات. الاهمّ من ذلك كله، انه اعتمد خطابا مؤيدا الى حدّ كبير للاصلاحات التي يقودها الملك ومؤسسة العرش. وهذا ما جعله مقبولا في الاوساط الشعبية وليس حزبا انقلابيا كما فعل غيره من الذين وقفوا في الخفاء والعلن خلف الدعوة الى مقاطعة الانتخابات.
صارت الكرة الآن في ملعب الاحزاب المغربية. بات على هذه الاحزاب الاقتناع بأن طريق الاصلاحات في المغرب لا عودة عنه. باختصار شديد، دخلت المملكة مرحلة جديدة. تفادى المغرب السقوط في الحفر التي سقط فيها غيره. ليس عيبا اعتماد تجربته نموذجا في بلدان تتطلع الى الانتماء الى العالم المتحضر من دون خضّات كبيرة. تكفي المقارنة بين ما حصل في مصر وليبيا وسوريا من جهة وما يشهده المغرب من جهة اخرى لاستيعاب اهمية ما شهدته المملكة حيث ملك متصالح مع شعبه اوّلا...