قبل كلّ شيء، يفترض الانطلاق من ان محاولة الاغتيال التي تعرّض لها الدكتور سمير جعجع رئيس الهيئة التنفيذية في quot;حزب القوات اللبنانيةquot; كانت جدّية، بل اكثر من جدّية. ليس السؤال هل تعرّض لمحاولة اغتيال ام لا، كما يتساءل كثيرون يسعون الى تفادي مواجهة الواقع ومنع توجيه اصابع الاتهام الى الجهة المستفيدة من التخلص من زعيم مسيحي في لبنان. انه زعيم مسيحي بدأ يتحوّل الى زعيم وطني لبناني مقاوم لديه امتداداته العربية، خصوصا بعدما نادى بدعم quot;الربيع العربيquot; بشكل صريح.
لعلّ السؤال الطبيعي بعد محاولة الاغتيال لماذا سمير جعجع؟ ولماذا سمير جعجع في هذا التوقيت بالذات؟ الاكيد ان الجواب عن السؤال ليس سهلا في ضوء التعقيدات التي يمرّ بها لبنان والمنطقة. الاّ ان ذلك لا يمنع من الخروج بعدد قليل من الاستنتاجات، خصوصا اذا اخذنا في الاعتبار تجارب الماضي القريب والملابسات التي رافقت مسلسل الجرائم التي كان لبنان مسرحا لها منذ العام 1977 لدى اغتيال الزعيم الوطني كمال جنبلاط في منطقة لا تبعد كثيرا عن قصره في المختارة وذلك بعد اسابيع قليلة من حصول خلاف بينه وبين الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد.
ما كان ملفتا في اغتيال كمال جنبلاط ان الجريمة حصلت في مرحلة بدأ فيها نوع من الحوار مع الفريق اللبناني الآخر الذي كان الشيخ بشير الجميل ابرز رموزه. كان واضحا منذ فترة طويلة انه ممنوع ان يكون هناك اي التقاء بين اللبنانيين وانه يجب ان يبقوا على خلاف في ما بينهم، خلاف يصل الى حدّ القطيعة.
بعد خمس سنوات ونصف سنة، في ايلول- سبتمبر من العام 1982، اغتيل بشير الجميّل. لم يكن اغتيال بشير الجميّل بعيد انتخابه رئيسا للجمهورية سوى تعبير آخر عن اي رفض لوجود زعامة وطنية في لبنان. طالما كان بشير الجميّل على راس فريق من اللبنانيين يستخدم في المواجهة مع الفريق الآخر، لم يكن من خطر على حياته. عندما مدّ يده الى الاخرين وفتح حوارا جدّيا معهم، صار مطلوبا اغتياله.
لكلّ عملية اغتيال في لبنان قصة. اغتيل الرئيس رينيه معوّض لانه رفض ان يكون اداة سورية ولانّه اعتبر اتفاق الطائف اتفاقا عربيا يتمتع بغطاء دولي. واغتيل الشيخ حسن خالد مفتي الجمهورية اللبنانية لانّه اصرّ على هامش خاص بالسنّة، تجاه النظام السوري، من منطلق ايمانهم بالكيان اللبناني. قبل ذلك، في العام 1978، اخفي الامام السيّد موسى الصدر رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى في ليبيا في ظروف لا تزال غامضة لانّه كان رجل حوار بين اللبنانيين. واغتيل الرئيسان صائب سلام وتقيّ الدين الصلح، رحمهما الله، والرئيس السيّد حسين الحسيني، اطال الله بعمره، اغتيالا سياسيا للسبب نفسه. وسيأتي يوم يتبيّن فيه السبب الحقيقي لاغتيال الرئيس رشيد كرامي، رحمه الله. سيتبيّن خصوصا انه قد لا تكون هناك علاقة لسمير جعجع بهذه الجريمة.
لم يتغيّر شيئ في لبنان وصولا الى العام 2005 تاريخ اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، على راسهم باسل فليحان. كان مطلوبا في كلّ لحظة وفي كلّ يوم ان لا يكون هناك زعيم لبناني قادر على ان يمد يده للآخرين وان يساعد في اعادة لبنان الى خريطة المنطقة بديلا من quot;لبنان- الساحةquot;. كان مطلوبا التخلّص من رفيق الحريري لانّه صار زعيما وطنيا لبنانيا من جهة وزعيما عربيا من جهة اخرى، اضافة الى كان صديق الكبار في هذا العالم...
بعد وصول الرئيس بشّار الاسد الى السلطة صارت هناك شراكة سورية- ايرانية في مجال تحقيق هذا الهدف. ولذلك اغتيلت كلّ تلك الشخصيات التي كانت تمتلك القدرة على الجمع بين اللبنانيين، من سمير قصير، الى جورج حاوي، الى جبران تويني، الى وليد عيدو، الى انطوان غانم. ضمّت هذه المجموعة من الشهداء رجلا استثنائيا اسمه الشيخ بيار امين الجميّل. لم يُستهدف بيار امين الجميّل الاّ لانه كان مشروع زعيم وطني عابر للطوائف والمناطق وليس مجرّد نائب مسيحي يبحث عن كيفية ان يكون اداة لدى هذا الحزب المذهبي المسلّح او ذاك. ليس مطلوبا، لدى بعضهم، في هذه المرحلة سوى المحافظة على شخصيات مسيحية من نوع النائب ميشال عون الذي لا يستطيع ان يكون نائبا عن كسروان من دون دعم سوري وايراني، اي من دون اصوات الشيعة والارمن في قضاء كسروان على وجه التحديد...
طوال ما يزيد على اربعين عاما، قاوم لبنان محاولة انقلابية استهدفت وضعه تحت الوصاية الدائمة. لماذا محاولة اغتيال سمير جعجع الان؟ الجواب لانّ الرجل يقاوم الانقلاب الذي يتعرّض له لبنان. تحوّل سمير جعجع من قائد ميليشيا الى سياسي يفكّر في مستقبل لبنان وفي كيفية مدّ الجسور بين اللبنانيين. منذ خروجه من السجن في العام 2005، استطاع سمير جعجع صياغة خطاب سياسي متميّز كشف ان الرجل متديّن ولكنه ليس متعصّبا كما حال ميشال عون الذي يريد محاربة اهل السنّة في المنطقة كلّها بواسطة ميليشيا مذهبية تابعة لايران!
في سنوات قليلة، انتقل سمير جعجع من زعيم ميليشيا الى زعيم وطني قادر على محاورة الآخرين من جهة وعلى الانفتاح على المحيط العربي من جهة اخرى. الاهمّ من ذلك، بات عنصرا فاعلا في المعادلة اللبنانية. لعب دورا اساسيا في تعبئة الشباب اللبناني، خصوصا في المناطق المسيحية، في وجه الذين يسعون الى تطويق الوطن الصغير واختراقه عسكريا وامنيا وسياسيا ومذهبيا من كلّ الجهات واعادته quot;ساحةquot;.
بكلام اوضح، لا يمكن استكمال القضاء على لبنان واعادته الى الوصاية من دون القضاء على سمير جعجع. في غياب سمير جعجع في الامكان ضرب الجناح المسيحي في التيّار الاستقلالي في لبنان في انتخابات السنة 2013. هناك من يعدّ منذ الآن لتلك الانتخابات ولكيفية الانتصار فيها على اللبنانيين واخضاعهم مجددا عن طريق الارهاب والترهيب اوّلا.
المفارقة، ان ذلك يحصل في وقت يعود الوطن الصغير الى الحياة بعدما تبيّن ان الصيغة اللبنانية اقوى بكثير من الصيغة السورية. كذلك، تبيّن انّه اذا كان هناك من ازمة كيان، فانّ هذه الازمة في سوريا وليس في لبنان وانّه اذا كان من مستقبل لمسيحيي لبنان والمنطقة، فانّ هذا المستقبل مرتبط بقيام مؤسسات ديموقراطية وليس بحلف الاقلّيات الذي يدعو اليه بعض مرضى النفوس مثل البطريرك الماروني الحالي، اي البطريرك الحكواتي، الذي لا يعرف متى عليه ان يصمت وما اذا كان عليه ان يتكلّم.