ثمة من يعي ان المعركة التي يخوضها العرب من اجل مستقبل افضل، معركة مرتبطة في جانب اساسي منها بالتعليم ومستواه والبرامج المتبعة في المدارس. وثمة من يؤمن بان المدارس مكان لتدجين الشعب وتطويعه وخطوة في طريق وضع اليد على السلطة عن طريق استخدام الدين في هذا السبيل. تلك مدرسة quot;الاخوان المسلمينquot; التي تضع مسألة الوصول الى السلطة وتجهيل الناس بواسطة المؤسسات التعليمية فوق كلّ اعتبار.
قد تكون غزّة المكان المفضّل في هذه الايام لممارسة هذه التجربة quot;الاخوانيةquot; عن طريق quot;حماسquot;. انها تجربة تنادي علنا بزوال الاحتلال والمقاومة والممانعة، الا انها تفعل كلّ شيء من اجل تحويل الشعب الفلسطيني الى شعب كسول يهمّش المرأة ويصدّق الشعارات التي يطلقها في وقت يخلق الاحتلال الاسرائيلي بشكل يومي واقعا جديدا على الارض.
كان ياسر عرفات، رحمه الله، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، يحتفظ في جيب قميصه بورقتين. كانت الورقة الاولى تمثّل ما كان يسمّيه العملة الفلسطينية الصادرة ايام الانتداب البريطاني. كان يقول: ما دامت كانت هناك عملة، من الضروري ان تكون هناك تغطية لها. كان يرجّح ان تكون التغطية ذهبية. وينتقل من هذا الافتراض ليسأل: اين ذهبت التغطية؟ بالنسبة اليه كان الجواب ان بريطانيا لا تريد الاعتراف بوجود مثل هذه التغطية الذهبية التي كانت محفوظة في لندن، لانها لا تريد الاعتراف بوجود دولة فلسطينية كان منطقيا ان تصبح دولة مستقلة مع زوال الانتداب...
اما الورقة الثانية التي كان يخرجها quot;ابو عمّارquot; من جيب سترته بين الحين والآخر، فكانت ورقة سجّل عليها عدد الاطباء والمهندسين والاساتذة الجامعيين وحملة الشهادات العليا من ابناء الشعب الفلسطيني. كان يفتخر بانّ الشعب الفلسطيني، برجاله ونسائه، يمتلك داخل فلسطين وفي الشتات اكبر عدد من الاطباء والمهندسين وحملة الشهادات العليا مقارنة مع الشعوب العربية الاخرى. كان لديه انطباع، قد يكون صحيحا او قد لا يكون، ان عدد خريجي الجامعات من بين الفلسطينيين يفوق، نسبيا، عدد الخريجين من اللبنانيين او السوريين او الاردنيين او المصريين...
لم يكن ذلك مهما، لكنّ المهمّ كان تركيز ياسر عرفات على التعليم ومستواه واهميته. كان يؤمن باهمية التعليم ومستواه وبانه جزء لا يتجزأ من المعركة السياسية التي تستهدف استعادة الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة والتي ستتوج يوما بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
كان التعليم والبرامج التعليمية من الاسلحة التي كان يشدّد عليها ياسر عرفات. كان يفتخر خصوصا بعدد الفلسطينيين المقبولين في الجامعة الاميركية في بيروت او الجامعات الاخرى في لبنان ومصر او في الجامعات الموجودة في اوروبا والولايات المتحدة. ربّما كان ذلك عائدا الى انه كان يوما رئيسا لاتحاد طلاب فلسطين في القاهرة التي تخرج مهندسا من احدى جامعاتها.
في كلّ الاحوال، كان الطلاب وخريجو الجامعات العمود الفقري لحركة quot;فتحquot; قبل ان تترهل. وما كان ينطبق على quot;فتحquot;، كان ينطبق على منظمات اخرى مثل quot;الجبهة الشعبيةquot;. كان طلاب فلسطين في الداخل والخارج يمثلون الامل. كانوا في صلب النضال العسكري ثم السياسي. كان هؤلاء يرمزون الى حيوية المجتمع الفلسطيني ورغبته في التحرر وتحقيق حلم العودة الى كلّ فلسطين في البداية، ثمّ الى الدولة الفلسطينية في مرحلة لاحقة نضج فيها quot;ابو عمّارquot; وبات يعرف كيف يفرّق بين الواقع والشعارات... بين الممكن والمستحيل!
كان الشعب الفلسطيني ولا يزال شعبا منتجا. كان الفلسطيني يعمل بكدّ في كلّ مكان. كان يساعد في صمود فلسطينيي الداخل، خصوصا بعد احتلال اسرائيل للضفة الغربية وغزة في حرب حزيران- يونيو 1967. لعب الفلسطينيون في الشتات دورا اساسيا في ابقاء القضية على قيد الحياة. ولا شكّ ان ياسر عرفات الذي راهن على العلم وخريجي الجامعات واصحاب المؤهلات استطاع بفضل هؤلاء وضع فلسطين على الخريطة السياسية للشرق الاوسط. تمكّن من ذلك على الرغم من الاخطاء الكبيرة التي ارتكبها ان في حق الاردن او لبنان او الكويت حيث تسبب بكارثة لحقت بالفلسطينيين الذين كانوا يقيمون معزّزين مكرّمين في تلك الدولة قبل ان يقدم صدّام حسين على مغامرته المجنونة في الثاني من آب- اغسطس 1990.
اضاع quot;ابو عمّارquot; البوصلة في احيان كثيرة. لكن المكان الوحيد الذي بقي متمسكا بالاتجاه الصحيح هو العلم والتعليم والمدارس والجامعات. لم يبخل يوما على فلسطيني محتاج كان يود ارسال ابنه او بنته الى جامعة من الجامعات شرط ان تكون هذه الجامعة في المستوى المطلوب. في هذا المجال، لم يضع الاتجاه الصحيح للبوصلة يوما.
قبل سبع سنوات ونصف سنة، غاب ياسر عرفات. غابت ايضا تلك الرغبة في بقاء الشعب الفلسطيني شعبا منتجا يفتخر قبل كلّ شيء بانه يمتلك نسبة كبيرة من المتعلّمين والجامعيين. بدأت ثقافة مختلفة تغزو المجتمع الفلسطيني. انها ثقافة quot;الاخوان المسلمينquot; التي تقوم على اعطاء الاولوية لتغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني والاحتفاظ بالسلطة وليس التخلص من الاحتلال. رحم الله ياسر عرفات الذي كان من الافضل له ان يرحل عن عالمنا قبل ان يرى غزة في الحال التي هي فيها الآن. صار المجتمع الفلسطيني يعيش في ظلّ اقتصاد ريعي قائم على المساعدات الخارجية والتهريب بعدما كان مجتمعا منتجا يعمل فيه الاب من اجل اعالة اولاده وتعليمهم وتوفير مستقبل افضل لهم.
فرض quot;الاخوان المسلمونquot; بثقافتهم المتخلفة نمطا جديدا من الحياة في غزة وذلك عبر حركة quot;حماسquot; الساعية الى جعل الفلسطيني يعيش في الاوهام. تفعل ذلك من اجل السلطة ولا شيء آخر غير السلطة. اتشح القطاع بالسواد والبؤس. الامر ليس مهمّا بالنسبة الى quot;حماسquot; والمدرسة التي تنتمي اليها ما دام الهدف النهائي هو السلطة ولا شيء آخر غير السلطة. بات مطلوبا من الفلسطيني ان لا يعمل. عليه الاكتفاء بان يكون موظّفا او مقاتلا لدى quot;حماسquot; او لدى احد التنظيمات التابعة لايران. وما اكثر هذه التنظيمات في غزة.
من حسن الحظ ان السقوط الفلسطيني في فخّ quot;حماسquot; وما تمثله اقتصر الى الآن على غزة. لا تزال الضفة الغربية تقاوم. تماما مثلما يقاوم المجتمع اللبناني ثقافة الموت التي تسعى ايران الى فرضها على مجتمعه عن طريق quot;حزب اللهquot; وتوابعه وادواته المعروفة والمستترة.
في النهاية، انها معركة مزدوجة. لا يمكن فصل معركة التعليم ومستواه عن النضال من اجل الاستقلال والتحرر الذي يخوضه الشعب الفلسطيني. انها معركة الانسان الفلسطيني اوّلا واخيرا. انه انسان يعرف ان التخلف الذي يسعى quot;الاخوان المسلمونquot; الى ربطه به عن طريق التعليم والبرامج التربوية لا يمكن ان يخلّصه من الاحتلال. يعرف ايضا ان الشعارات التي ترفعها quot;حماسquot; لا تخدم الا الاحتلال الاسرائيلي نظرا الى انها شعارات مخدّرة تجعل الاحلام بديلا من الواقع والبؤس بديلا من الحياة الكريمة وثقافة الحياة....