في الثاني من شهر نوفمبر عام 1917، أي قبل أكثر من خمسة وتسعين عاماً، أصدر وزير الخارجبة البريطاني، جيمس آرثر بلفور، تصريحاً مكتوباً وجهه باسم الحكومة البريطانية إلى اللورد ليونيل والتر روتشيلد، يتعهد فيه بإنشاء quot;وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطينquot;، واشتهر التصريح باسم وعد بلفور.
الوعد كان حاضراً في مؤتمر سان ريمو (1920) الذي منح فيه الحلفاء بريطانيا حق الانتداب على فلسطين، وفي عصبة الأمم التي صدقت في يوليو/ تموز 1922 على صك إقرار الانتداب البريطاني، فالصك كان يتضمن في مقدمته نص وعد بلفور مع تخويل لبريطانيا بتنفيذه. كما كان حاضراً في دستور فلسطين الذي أصدرته بريطانيا بعد أسبوعين من إقرار انتدابها أممياً.
ردود فعل الدول الكبرى على الوعد حين صدوره كانت مفعمة بتأييد واضح، فأيدت الوعد فرنسا وإيطاليا وأميركا بطريقة تسمح بالقول إن وعد بلفور كان وعداً غربياً وليس بريطانياً فحسب، أو أنه تأييد يرقى إلى منزلة quot;الوعدquot;، خاصة من أميركا التي تشاركت النفوذ البريطاني في فلسطين في مراحل لاحقة قبل أن ترثه، إذ أصدر الكونغرس الأميركي عام 1922 قراراً أيد فيه الوعد، وتقدمت هذه السياسة مع تزايد النفوذ الأميركي في المنطقة، حتى أصبح تعهداً إستراتيجياً أميركياً برعاية quot;إسرائيلquot; وحمايتها.
تعود فكرة السيطرة على فلسطين في العصر الحديث إلى القرن الثامن عشر، إذ حاولت كل من فرنسا وبريطانيا السيطرة على فلسطين أو نيل امتيازات فيها, وتجلت أولى هذه المحاولات في حملة نابليون على مصر وبلاد الشام, ففيما كان quot;اليهودquot; وقتئذ ينتعشون اقتصادياً، كانت فرنسا تعيش إرهاصات ثورتها المشهورة وتعاني من ضائقة مالية، ولم يكن نابليون يستطيع أن يمول حملاته دون مساعدة من اليهود الذين اتفقوا سراً معه على تمويل حملته في حال أمّن لهم موطئ قدم في فلسطين.
وبعد فشل نابليون في حملته، تحرك اليهود باتجاه بريطانيا التي اهتمت ببلاد الشام عموماً، وفلسطين خصوصاً، بعد شق الفرنسيين لقناة السويس، فتبنت بريطانيا فكرة السيطرة على هذا الممر المائي الهام، ومنع أي قوة من الحصول على فلسطين لقربها من قناة السويس. وبعد عقد مؤتمر بازل في سويسرا، وجد البريطانيون أن قيام دولة يهودية على أرض فلسطين صار أمراً ممكناً بعد أن تعهدت الوكالة اليهودية والأغنياء اليهود بحماية المشروع الصهيوني.
فاتخذت بريطانيا عدة خطوات لتمكين هذا المشروع، منها، عزل فلسطين عن محيطها العربي والإسلامي بوضع حاجز بشري من خلال استقدامها العمالة اليهودية، والسماح للوكالة اليهودية بشراء الأراضي وبناء المستوطنات. والاتفاق مع بعض القيادات السياسية العربية على ضرورة العطف على اليهود واعتبار وجودهم مجرد مساعدة إنسانية. وتدريب الكوادر العسكرية اليهودية العاملة في الجيش البريطاني في المستعمرات البريطانية وخصوصاً الهند. فضلاً عن تسليح التجمعات اليهودية بعتاد ثقيل بذريعة حماية الممتلكات.
قيام دولة لليهود على أرض فلسطين يعد تحقيقاً لما يعتقد quot;زوراًquot; أنّه من تعاليم الدين المسيحي، ففكرة quot;عودةquot; اليهود إلى أرض فلسطين برزت كشرط لعودة المسيح- عليه السلام- ودخول اليهود في المسيحيّة، وبالتالي نهاية العالم. ومن الناحية السياسية، كانت بريطانيا تريد بهذه الخطوة ضمان تأييد اليهود في العالم في الحرب العالمية الأولى، لا سيما اليهود الموجودون في أمريكا والذين دفعوها بالفعل إلى دخول الحرب رسمياً عام 1917.
ويبرز التنافس الإمبريالي كعامل مؤثر، ففي الوقت الذي كان لفرنسا موطئ قدم في فلسطين عبر علاقتها مع المسيحيين الكاثوليك، وروسيا عبر علاقتها بالأرثوذكس، فإنّ بريطانيا لم يكن لها أي حليف، وهو ما جعلها تسعى إلى عقد تحالف مع الصهاينة، فضلاً عن موقع فلسطين الاستراتيجي، ورغبة بريطانيا في الاستفادة من الوضع المالي القوي لليهود، واستمالة يهود روسيا والدول المحايدة لتأييد قضية الحلفاء في الحرب العالمية. وتنفيذ الوعد الذي قطعته بريطانيا لحاييم وايزمن بإنشاء وطن قومي لليهود؛ مكافأة له على اكتشافه مادة (الجليسيرين) المستخدمة في صناعة المتفجرات من السكر المخمر، إذ رفض حينها بيع اختراعه إلا مقابل الحصول على هذا الوعد الذي عمل على تكريسه عندما أصبح أول رئيس وزراء للكيان الإسرائيلي. دون إغفال الخلفية الدينية المتشددة لبلفور نفسه وإيمانه بأهمية quot;عودةquot; اليهود إلى فلسطين.
مأساة الفلسطينيين وتراجيديا حالهم وتكالب على استغلال الظروف والمعطيات لتمرير مصالح دولية وإقليمية معينة، لا يمنع أنهم في الوقت الحالي يسهمون في مضاعفة آلام وعذابات شعبهم من خلال حرصهم على ترسيخ الانقسام السياسي أو على الأقل، عدم المبادرة إلى حلها والتخفيف من آثارها، وانشغال الجميع عن تهويد القدس وحفريات الأقصى بقضايا هامشية أو أقل أهمية لا تأخذ في عين الاعتبار ملفات رئيسية كالقدس واللاجئين ومستقبل الدولة الفلسطينية والمقدسات وتهويد ما تبقى من الضفة والمستوطنات التي تبتلعها يومياً، فهل كان وعد بلفور في ظل هذه المعطيات المتقدمة الحديثة أكثر ضرراً على القضية الفلسطينية من بعض أبنائها المشغولين بتقاسم فتات ما تبقى من رافعة الأمة العربية والإسلامية (فلسطين)؟!

هشام منوّر.... كاتب وباحث
[email protected]