لا يمكن الحديث عن المجتمع المدني في الأنظمة الشمولية والمستبدة، وكذا في الأنظمة الثيوقراطية؛ لأن هذه الانظمة لا تعترف بوجود شيء اسمه مجتمع مدني؛ وإن وجدت بعض المؤسسات المعبرة عنه؛ فإنها صورية ليس إلا، ولا يمكن أيضا الحديث عن المجتمع المدني في ظل حكومات ما عرف إعلاميا بالربيع العربي؛ لأنها في طور التحول الديمقراطي من جهة، ولأنها بلدان لم تتخطى بعد مرحلة quot;المرجعية الدينيةquot;، وكذا لم تتجاوز مرحلة quot;المرجعية السياسيةquot;.

يقتضي ndash;بنظرنا- الحديث عن المجتمع المدني ربطه بالدولة؛ رغم اختلاف وظائفهما، وتباين مسار تشكلهما-، فمثلا في البلدان الديمقراطية التي قطعت أشواطا متقدمة في الممارسة الديمقراطية؛ تختلف حدود العلاقة بينهما، بحسب اختلاف النظريات السياسية؛ ويمكن القول أن هذه العلاقة/ الإشكالية لا تعني المجتمعات العربية في الظروف الراهنة، بقدر ما يعنيها قضية الانتقال والتحول الى مرحلة الديمقراطية، بالطبع، هذا لا يفسر غياب مؤسسات المجتمع المدني عن الفضاء العربي ndash;على الأقل ndash; شكلا من خلال شبكة التنظيمات التطوعية الحرة، والتشكيلات الثقافية والاقتصادية التي تسعى لتحقيق المصالح المادية والمعنوية لأفرادها؛ وإنما غياب وظائفه الحقيقية كما هي في المنظور الليبرالي، باعتبار أن المجتمع المدني منتوج غربي بامتياز، ومن الطبيعي أن تكون ممارسات المجتمع المدني العربي، تختلف و ممارساته في الغرب، ففي الأول تجده محاطا بأغلال الدولة وقيودها، وفي الثاني تجده في استقلال تام عنها.

لقد حاولت المجتمعات العربية استعارة مفاهيم الحداثة السياسية وأشكالها، وقامت جاهدة بتبيئتها في تربة غير صالحة لها، التي تحتاج الى سماد فكري ومعرفي مناسب لها، وأرضية ثقافية طيعة لتلقيها، ولعل مفهوم المجتمع المدني من بين المفاهيم والاشكال التي استوردها العرب، دون إدراك تاريخ نشأته، وأريد استنباته في غياب أي حسم لاشكالياته التاريخية والدينية، على غرار ما قام به الغرب، لذلك، قلما ما تجد مؤسسات المجتمع المدني غير مرتبطة بإيديولوجيا الدولة ومصالحها، ولا تتمتع بالامتيازات المادية واللوجستيكية التي تقدمها لها الحكومات، كل ذلك، مقابل ولاء غير مشروط لها؛ ومن تجليات أيضا انحراف المجتمع المدني عن مساره الصحيح؛ استغلال المصلحة العامة لتحقيق مآربه الذاتية الضيقة، كما تفعل بعض الدول حين ترفع شعار المصلحة العامة خدمة لمصالح أخرى.
الدولة في المنطقة العربية أشد وأقوى، لذلك، لا تألوجهدا في تكريس هيمنتها على المجال الخاص، وإبراز تفوقها عليه، حنى تبدو العلاقة بينها وبينه في اتصال وتماه تامين، على العكس في الديمقراطيات المعاصرة، وبفضل الموجة الليبرالية؛ التي ساهمت في تكريس الفصل بين المجال العام والمجال الخاص، ونزع الهيمنة المعيارية من المؤسسة الدينية( الكنيسة) بعبارة أخرى إبعاد السياسة عن ساحة quot;المطلقquot; أضحت الدولة حيادية في وجه مجتمع مدني قادر على المحافظة على تعدديته وتنظيمه الذاتي المستقل، وبذلك وضعت حدا للتبعية؛ أي قابلية الأفراد للخضوع لأي سلطة دينية كانت أوغيرها في شؤونهم الدنيوية، وقد تعزز المجتمع المدني في الغرب الديمقراطي بتنوعه وتعدده بفضل التعليم والمعرفة ووسائل الإعلام والاتصال.
بينما بقي في بلداننا يراوح مكانه؛ مرتهن بالدولة، والدولة منحازة لأطراف على حساب أطراف أخرى، وظل عنوان تصرفاتها هو الاستحواذ على المجال المدني، إلى درجة المبالغة في سطوتها عليه، ففوت عليها فرص التقدم والنماء والازدهاروالابتكار.
سيظل الالتباس قائما بين الدولة والمجتمع المدني ما لم يتم ترسيم الحدود بينهما؛ بحيث تمنح الدولة الحرية والاستقلالية له، فضلا عن عنايتها بحقوق وحريات الأفراد، في مقابل ذلك، يقوم المجتمع المدني بالرقابة عليها؛ والضغط على الحكومات من أجل قضايا المواطنيين؛ وليكون quot;قوة موازنة لسلطة الحكومةquot; بحسب تعبير نايجل أشفورد،- العبارة من مقال quot;المجتمع المدنيquot;- طبعا، في إطار الالتزام بقيم الاحترام والتسامح والقبول بالتعددية والإدارة السلمية للصراع.
ولا أحد يجادل في أهمية وجود مؤسسات المجتمع المدني كشرط للانتقال الديمقراطي، وإلا لما تمخض عن هذا الحراك الشعبي هذه الثورات والإصلاحات التي شهدتها المنطقة العربية، بالرغم من عفويته، وغياب قيادة فكرية وسياسية تقود هذا الحراك؛ فإنه لايخلو من حضور منظمات مدنية كانت تشتغل لعقود من أجل تحقيق مطالب المواطينين ونيل حرياتهم؛ بغض النظر عن الايديولوجيات التي كانت تحركها، ومن ثم، استمرار الحراك الشعبي السلمي ضرورة لتقويم اعوجاج النظم السياسية القائمة، وقمين أيضا بتحقيق حداثة سياسية مضمونا لا زيفا.
يبدو من خلال هذا القول، كأننا ندعو إلى اللادولة، والسعي الى تلاشيها واختفائها بالمرة، لكن الهاجس الذي يؤرق المواطن العربي؛ الذي يعيش تحت وطأة أنظمة بعيدة عن ممارسة قيم الديمقراطية، التوجس والخوف من الهيمنة المطلقة للدولة، والاختراق الجلي لمؤسسات المجتمع المدني؛ لأن هذا الخيار ما تزال بعض الشعوب العربية منها تعيش في أتونه؛ و ما تزال تداعياته الخطيرة على أفراد هذه الشعوب تستفحل بشدة بين الفئات الاجتماعية؛ من قبيل تفشي الاقتصاد الريعي، والفقر والقهر، والعنف والجهل والفساد...
لقد أومأنا آنفا إلى اتجاهين أو موقفين متناقضين حول تصورهما للعلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، وبدا أن الاتجاه الذي ينتصر لمنح المجتمع المدني الاستقلالية التامة، والحد من الهيمنة عليه من قبل الدولة؛ أكثر معقولية وانسجاما مع نزوع الانسان الطبيعي للحرية من ناحية، ونفور الانسان المعاصر من بيروقراطية الدولة وبطء أدائها، ومصادرتها للحريات الفردية. ويمكن الاشارة الى اتجاه ثالث أو ما سمي بالطريق الثالثquot; Anthony Giddensالبريطاني أنطوني جيدنز وهو عنوان لكتاب الذي صدر عنالمفكر الرواد بليبيا عام 1999 الطبعة الاولى وقد ترجماه كل من الدكتور أبو شهيوى ومحمد خلفquot;
وما يعنينا في مؤلفه، تحديدا، الفصل الثالث المتعلق بالدولة والمجتمع المدني؛ حيث يقول: quot;الحكومة والمجتمع المدني يجب أن يتصرفا كشريكين كل واحد ييسر للآخر أعماله، ولكن كل واحد يقوم بمهمة المراقبة على الاخر أيضاquot; (ص123) وقد ساق أمثلة من خلال دراسات تمت في أمريكا وبريطانيا، تخدم نظريته التوليفية بين الرأسمالية وقيم الاشتراكية، وتبقى ndash; بنظرنا ndash; جميع الاتجاهات في مقاربتها لهذه العلاقة تنطوي على نقط قوة ونقط ضعف. وفي السياق ذاته أورد أنتوني جيدنز جملة أسئلة من قبيل؛ ما هو حجم السلطة التي تتمتع بها المحليات لمراقبة المنظمات؟ ماذا يحدث عندما تكون الجماعات الفاعلة لها صورة مختلفة لمستقبل الجماعة الواسعة؟ من الذي يقرر أين تقف نهاية جماعة وبداية أخرى؟
ويستأنف كلامه بقوله أن : quot;الحكومة يجب عليها أن تقوم بالحكم في هذه القضية والقضايا الصعبة الأخرى، والدولة يجب أن تحمي الأفراد من صراع المصالح في المجتمع المدني، الدولة لا تسطيع أن تتحول إلى المجتمع المدني: وإذا كانت الدولة في كل مكان فليس لها مكانquot; (ص130).
يبدو في عالمنا العربي؛ الذي يعيش مخاض التحول الديمقراطي، محتاج أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة صياغة جديدة للعلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، تأتي نتيجة جدل داخلي، ونمو ذاتي، وتطور تلقائي. وتتأسس على القطع مع إشكالات الماضي؛ التي لم يعد لها وجود اليوم، وتروم بناء مجتمعات أكثر إيجابية وعقلانية؛ تتناسب واستحقاقات الثورة والاصلاحات السياسية الهامة التي حصلت في البلاد العربية.