رأيتها واقفة على رصيف الميناء عتيقة وكالحة اللون ولمحت مكتوب علي جانبها بحروف غير مقرؤة quot;مصرquot; وتبدو من بعيد مزدحمة حتى رأيت بعض الركاب يلقون بأنفسهم خارجها من فرط الزحام، ورغم كل المشهد الغير مشجع إلا أنني إقتربت منها لمشاعر قديمة أكنها لتلك السفينة التي حملتني على سطحها أجمل أيامي، وتعجبت عندما رأيت من على بعد أن السفينة مازال عليها صواري تحمل أشرعة مهترئة وقديمة رغم أنك تستطيع سماع صوت الماكينات البخارية من على بعد، ولما إقتربت أكثر من السفينة لاحظت أزدياد الهرج والمرج والضوضاء، الكل يتكلم ويصرخ ولا أحد يستمع، وقررت رغم كل شئ أن أستمر في المغامرة وأن أصعد السفينة.

وقبل أن أركب سألت أحد الركاب : هي المركب دي رايحة على فين ياحاج؟
فكان رده: والله مش عارف بس بيقولوا رايحة حتة كويسة،
سألته: طيب إزاي تركب وإنت مش عارف المركب رايحة فين؟
فقال: والله لو رايحة في داهية برضه حا أركبها!!
فتعجبت من إيجابته وصراحته، وسألته: طيب هي المركب حتقوم إمتى؟
فقال: برضه مش عارفين، أهي واقفة على الحال ده بقالها سنتين وكل شوية يقولوا حتقوم بعد شوية.
ثم بادرني هو بالسؤال: لكن إنته عاوز تروح فين يا إستاذ؟
فقلت : والله مش عارف!
فضحك ضحكة صادقة وقال: ما دمت مش عارف رايح فين يبقى أركب معانا، وكلنا في الهوا سوا،

فإبتسمت وشكرته وركبت السفينة وأخذت طريقي بصعوبة وسط الزحام والقاذورات والروائح الكريهة إلي سطح السفينة وهناك وجدت مشاجرة كبيرة بين مجموعتين من الناس وإقتربت منهم وأبقيت على مسافة معقولة منهم محاولا الإحتفاظ بسلامتي قدر الإمكان، ورأيت شخص يبدو أنه يرتدي ملابس القرون الوسطي،
فإقتربت منه وسألته: هو فيه حفلة تنكرية ولا إيه هنا على سطح المركب؟
فقال: تنكرية إيه ياأستاذ، أنتى بتتريق ولا إيه؟
فقال: لأ والله بس أنا شفتك لابس اللبس ده إفتكرت إن فيه حفلة تنكرية.
فقال: إنت باين عليك من إياهم.
فقلت: همه مين quot;إياهمquot; دول إللي منهم؟
فقال: البني آدمين إللي قدامك دول إللي لابسين لبس الخواجات.
فسألت بصدق: هو إيه الحكاية بالضبط؟
فقال: الحكاية ياسيدى إن الناس دول راسهم وألف سيف إلا يجبروا ربان السفينة إنه يمشيها بماكينات الديزل إللي مستوردينها من الخوجات إللي زيهم؟
فقلت: طيب وفيها إيه لما المركب تشتغل بالمكن، ما هو المراكب في العالم كله بتشتغل بالمكن؟؟
فرد بحدة: مش قلت لك إنت باين عليك من إياهم، لكن إحنا لنا خصوصيتنا وتراثنا وتقاليدنا مراكبنا لا تسير إلا بالشراع من صنع إيدينا!
فقلت: بس بالطريقة دي المركب مش حتوصل أبدا!
فقال: توصل فين ؟ مش لما نعرف قبلا إحنا رايحين فين؟؟
فقلت له: والله عندك حق، لما نعرف رايحين فين الأول.

فقررت النزول إلي قاع السفينة حيث الماكينات، ورأيت هناك صراع من نوع عجيب،
فإقتربت من أحد العاملين ويبدو أنه رئيس وردية وسألته: إيه المشكلة يا باشمهندس؟
فقال: المشكلة ياسيدي إن فيه ناس هنا عاوزة تشغل محور الماكينات مع عقرب الساعة وناس تانية عاوزة تشغلها ضد عقرب الساعة ،
فقلت له: طيب وإيه المشكلة في كده؟
فقال: إيه يا إستاذ إللي بتقوله ده؟ لما نشغل الماكينات مع عقرب الساعة حتمشي لقدام ولو ضد عقرب الساعة حترجع لورا.
فقلت: طيب هو أنتو مش بتاخدوا أوامركم من كابتن المركب، وهو يقول الماكينات تمشي إزاي؟
فقال: إحنا بقى ما ناخدش أوامرنا من حد، وكابتن المركب نفسه مش عارفين بياخد أوامره من مين وكل شوية ياخد قرار ويرجع فيه، وإحنا بصراحة مضربين عن العمل على أي الأحوال،
فسألته: مضربين عن العمل ليه كفي الله الشر؟
فقال: أهو مضربين وخلاص لغاية ما تجاب مطالبنا،
فسألت: طيب وإيه مطالبكم؟
فقال: مش عارفين، وأول ما نعرفها حنعلنها!!

وإستمرت جولتي التفقدية في السفينة ورأيت على البعد بعض أشخاص في قاع السفينة ممسكين بمثاقيب كهربائية ونازلين تخريم في السفينة ومجموعة صغيرة تحاول سد الخروم، وإقتربت من المجموعتين لكي اعرف ما يحدث، فإلتقيت بقائدي المجموعتين،
وسألتهم: إيه إللي بتعملوه إنتو إتجننتوا عاملين تخرموا المركب، كلكوا حتغرقوا؟؟
فقال قائد مجموعة التخريم: لأ إطمئن يا أستاذ ما أحنا كل لما بنخرم خرم المجموعة التانية بتسده على طول!!
فسألت: طيب إنتو لو بطلوا تخرموا يبقى خلاص ما فيش داعي لمجموعة تسديد الخروم،
فرد قائد مجموعة تسديد الخروم: سيادتك بقى باين عليك مش فاهم لا مؤاخذة، يعنى عاوزنا كلنا نبطل شغل، همه يبطلوا تخريم وإحنا نبطل تسديد، إنته مش بتسمع عن مشكلة البطالة وبعدين الإيد البطالة نجسة!
فقلت: عليكم نور، بس باين إن مجموعة التخريم حتكسب!!

وأصابني إكتئاب ولاحظت مشاجرة على بعد والدم يسيل من جباه المتعاركين وكان على مقربة منهم رجل أمن السفينة يتفرج ولا يتدخل، وإقتربت منه
وسألته: إنت ليه واقف تتفرج على الناس دي؟
فقال: إلهي يخلصوا على بعض، يستاهلوا ... لو كنت شفت إللي بيعملوه فيّ ما كانش صعبوا عليك.
فقلت: أيوه دول حيموتوا بعض وأنت وظيفتك حفظ الأمن في المركب؟
فقال ببرود: الكلام ده كان زمان، دلوقتي عندنا أوامر من الكابتن بعدم التدخل،

وعندها وجدت لزاما على أن أذهب لمقابلة ربان السفينة، فقيل لي أنه في قمرة القيادة بأعلى السفينة، ولما وصلت هناك فؤجئت بأن كابينة القيادة فارغة، فأخذت ديلي في سناني وقفزت من السفينة بالرغم من أنني لا جيد السباحة!!