المتابع للموقف التركي من تطورات الأزمة السورية وتحديدا من خطة المبعوث العربي الدولي كوفي عنان لا بد أن يرى حجم الإصرار التركي على إفشال مهمة عنان وخطته، فلسان حال المسؤولين الأتراك وعلى رأسهم رجب طيب اردوغان يقول ان خطة عنان ولدت ميته.
مع التأكيد على ان المنطق يقول إنه ينبغي عدم استباق الأحداث والحكم على مهمة انان سلبا أو ايجابا قبل معرفة النهايات، فان السؤال الذي يطرح نفسه هنا، له علاقة بخلفيات وأبعاد الموقف التركي هذا.
في محاولة للإجابة عن هذا السؤال ينبغي النظر إلى ما ذهبت إليه الدبلوماسية التركية تجاه الأزمة السورية، فهذه الدبلوماسية احرقت كل مراكبها مع النظام السوري، وانخرطت بقوة في الجهود الجارية للتخلص منه، بل كانت تركيا سباقة في استضافة المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري، فقدمت لها الدعم والمأوى و وقفت خلفها في كل خطوة حتى تحولت إلى راعية لها على أمل تحقيق هدف واحد، ألا وهو إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد وتشكيل المشهد السياسي السوري من جديد حيث التطلع إلى حكم يكون الأخوان المسلمين هم قادتها على غرار ما جرى في مصر وليبيا وتونس، ولمثل الأمر له علاقة بالمصالح والتطلعات التركية السياسية والايديولوجية تجاه سورية والمنطقة عموما.
وعليه، يمكن القول ان تركيا غير معنية بإنجاح خطة عنان بل على العكس تماما بإفشالها، لأن خطته هي عكس الآمال والأهداف التركية، لطالما ان الخطة تقر بحوار بين السوريين نظاما ومعارضة يتم من خلاله الاتفاق على حل للخروج من الأزمة عبر مرحلة انتقالية يبقي فيه الأسد طرفا، وهو ما لا تريده تركيا التي تقول انها علاقاتها معه انتهت إلى غير رجعة وان رحيله أضحت مسألة وقت. ولكن مشكلة تركيا اردوغان هذه هي أنها أضحت في مفارقة غريبة وكارثية معا، أفقدتها المصداقية في الداخل والخارج معا ولاسميا من قبل السوريين في الداخل الذين رأوا في تصريحاته النارية مجرد قنابل صوتية جلبت لهم المزيد من الاحلام المدمرة، فاردوغان الذي هدد مرارا ومنذ أكثر من سنة بأنه لن يسمح بتكرار حماه ثانية وحدد المهل والفرص للنظام وأطلق الإنذار الأخير تلو الأخير... بدا أقرب إلى ديك صياح لا يجيد سوى الكلام والتهديدات، وهذا الأمر لا ينطبق على الأزمة السورية فقط بل على مجمل قضايا المنطقة، فقبل أسابيع أعلن أنه لن يسمح بالحرب الطائفية في العراق على خلفية ما عرف بقضية طارق الهاشمي ! وهو ما دفع برئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إلى الرد عليه بالقول : (كأنه يدير العراق ) مهددا بأن مثل هذه الحرب لن تسلم تركيا منها، وقبل ذلك هدد اردوغان إسرائيل مرارا بالويل والثبور وعظائم الأمور على خلفية ما حصل لسفن اسطول الحرية قبل ان يكتشف الجميع انه يبحث في واشنطن عن تسوية تنقذ ماء وجهه بإعتذار إسرائيلي وهو ما لم يحصل، ولعل في احدث مفارقات اردوغان هذه، دعوته الحلف الأطلسي مؤخرا لمساندة بلاده وفقا للمادة الخامسة من ميثاق الحلف الأطلسي والتي تنص على أن كل دولة عضو في الحلف يجب ان تعتبر تعرض بلد من الحلف لهجوم كعمل موجه ضد كل الأعضاء وتتخذ التدابير اللازمة لمساعدة الدولة التي تعرضت لهذا الهجوم، ذلك بعد ان وصل نار الجيش السوري إلى داخل الأراضي التركية. والظريف ان هذه المفارقات مجتمعة دفعت بالحماصنة - نسبة إلى أهالي مدينة حمص السورية رغم مراراة المشهد في مدينتهم - إلى أطلاق الكثير من النكات عن اردوغان من نوع (جمعة تسليح الجيش التركي ndash; اردوغان لن يسمح بتكرار ما جرى في اسطنبول - جمعة إقامة منطقة عازلة داخل الأراضي التركية ) في تعبير عن تتاقض بين تصريحات اردوغان وأفعاله. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل سيبقى اردوغان على هذا النحو يدمر مصداقية سياسته ويقبل بخسارة كبيرة على الجبهة السورية؟
ثمة من يقول ان تركيا لا تريد التدخل عسكريا في سورية بشكل منفرد كي لا تظهر بمنظر الدولة الاستعمارية لدولة عربية وكي لا تجلب عداوة الشعوب العربية لبلاده عند دخول أول جندي تركي الأراضي السورية، وثمة من يقول ان تركيا لا تريد التدخل دون قرار دولي وبمشاركة دولية كي تتجنب التداعيات المحتملة، والتدخل التدولي لا يبدو متاحا في ظل الإنشغال الأمريكي الفرنسي بالانتخابات الرئاسية، وثمة من يرى أن الخطوات والاجراءات التدريجية التي تتخذها تركيا ما هي الا مقدمات للتدخل حينما تنهار المبادرات والخطط وان جولة اردوغان الأخيرة إلى العديد من الدول العربية والأجنبية كانت تحضيرا لهذه الغاية، ولعل ما يعقد ويؤخر الخيار التركي بالتدخل هو جملة الحسابات المتعلقة بالمواقف الروسية والإيرانية والعراقية والتداعيات المحتملة على الداخل التركي حيث القضية الكردية التي تبدو المستفيدة الأكبر من التطورات الجارية.
الدبلوماسية التركية في متابعتها الحثيثة للملف السوري في أزمة ومحنة معا، ومع ان ازدياد الحديث عن إقامة منطقة أمنية عازلة داخل الأراضي السورية قد لا يكون مؤشرا إلى التدخل العسكري وانما لزيادة الضغوط على النظام السوري وتأمين انطلاقة جديدة للجيش السوري الحر،ولكن ماذا إذا طالت الأزمة وبدا النظام السوري قادرا على التكيف مع القادم بدعم روسي وصيني وإيراني؟ هل ستبرد الرؤوس الحامية في تركيا أم أن نار معركة مرج دابق قبل خمسة قرون سينفجر من جديد؟