أهم ما ميز الربيع العربي في مصر عقب الإطاحة بالنظام الشمولي الاستبدادي هو انفتاح الباب الواسع ل (ديمقراطية بدون حدود) رغم ما صاحب ذلك من مظاهر تعديات وفوضى، وهذا أمر طبيعي في ظروف مجتمع حكمه العسكر طوال ما يزيد على ستين عاما بقمع وتقييد للحريات في كافة المجالات، مع ما صاحب ذلك من فساد نهب النسبة الأكبر من ثروة الشعب المصري الذي تعيش نسبة عالية منه تحت خط الفقر، ونسبة الأمية فيه حسب تقرير التنمية البشرية العربية تفوق خمسين بالمائة، وهذه مظاهر دلالتها الوحيدة أنّ العسكر الذين حكموا لم يكن همهم سوى الاستمرار في السلطة، رغم مظاهر وديكورات ديمقراطية من تطبيقاتها نسبة في حرية التعبير، لكن الحاكم المستبد كانت تطبيقاته لحرية التعبير هذه هي (من حقك أن تقول وتكتب ما تريد ومن حقي أن أنفذ ما أريد).
وماذا عن صعود التيارات الإسلامية؟
هذا الصعود خاصة لجماعة الإخوان المسلمين المصرية والتيارات السلفية والجماعات الإسلامية، وكافتها كانت محظورة رسميا، وذاق العديد من قياداتها وكوادرها الموت و السجون لسنوات عديدة، و لم ينل بعضهم حريتهم إلا بعد اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 ومنهم الإخواني خيرت الشاطر والقيادي في الجماعة الإسلامية عبود الزمر. وقد شكّل صعود الإسلاميين هذا وتحقيقهم الغالبية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة والجمعية التأسيسية لإعداد الدستور الجديد التي تمّ إلغاؤها، كان من أهم نتائج الربيع المصري، ولها عدة خلفيات وجذور في نسيج المجتمع المصري أهمها:
1 . إنّ طبيعة المجتمع المصري رغم كل السلبيات والخروقات هي طبيعة متدينة في العمق، أيا كانت خلفية هذا التدين إيمانا حقيقيا نابعا من القلب والعقل أو مجرد تربية منزلية ومدرسية (أي بالوراثة) لا تحقق توازنا بين هذه التربية والتعاملات اليومية في كافة مجالات الحياة، وهي مجموعة التناقضات التي عبّر عنها الكاتب والروائي المصري علاء الإسواني في مقالته الشهيرة بعنوان (هل نحن فعلا متدينون؟ الأخلاق بلا تدين أفضل من التدين بلا أخلاق). وهي مقولة رغم معارضة البعض لها إلا أنّها تنسجم مع عدة أحاديث للرسول صلى الله عليه وسلم ومنها: (إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وما لا يعترف به الكثيرون على أنّه من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم (الدين المعاملة). و كذلك قول الله تعالى في وصف الرسول (و إنّك لعلى خلق عظيم). وطبيعة هذا التدين هي التي صعّدت الإخوان المسلمين و السلفيين والجماعات الإسلامية لصدارة المشهد السياسي في مصر، مع تراجع واضح للتيارات العلمانية والليبرالية والقومية التي مارست نشاطات واسعة فلم يعرف المجتمع من خلالها سوى الخطابات النظرية دون ممارسات في أرض الواقع، بالاضافة لتناحرها وانشقاقاتها التي لا تحصى.
2 . حجم القمع والمصادرة الذي تعرض له الإسلاميون في الستين عاما الماضية، خاصة الإعدامات والسجون، جعل (كل ممنوع مرغوب)، خاصة أنّهم رغم كل هذا التضييق اللاديمقراطي كانوا أنشط الجماعات في خدمة المجتمع ميدانيا حيث الجمعيات الخيرية والمدارس والمستشفيات شبه المجانية في الأحياء الشعبية التي تفتقر للخدمات أو لا يستطيع سكانها الحصول على هذه الخدمات في المستشفيات غالية التكلفة.
وماذا عن صدارة المشهد الحالي؟
المفاجأة التي استوقفت العديدون هي إعلان جماعة الإخوان المسلمين في البداية عدم تقديم أي مرشح منها لانتخابات رئاسة الجمهورية، وبسبب رفض الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح لهذا التوجه وتقدمه لانتخابات الرئاسة قامت الجماعة بفصله من صفوفها، رغم شعبيته وفاعليته في صفوف الجماعة لسنوات طويلة. وفجأة تتراجع الجماعة عن توجهها هذا وتتقدم بمرشح لانتخابات الرئاسة هو خيرت الشاطر الذي تم إخلاؤه من سجون حسني مبارك حديثا على خلفية قضايا عديدة منها ما عرف بميليشيات الأزهر، وهو مهندس معروف يمتلك امبراطورية اقتصادية تعمل في مجالات عديدة، ويحظى بشعبية واسعة في صفوف الجماعة. وقد كانت ما اعتبره البعض أول صدماته الانتخابية هي إعلانه الصريح (أنّ تطبيق الشريعة الإسلامية هي هدفه الأول والأخير). وأرى أنّه لا جديد في هذا الموقف فالمادة الثانية من الدستور المصري القديم التي تحرص الغالبية على بقائها في الدستور الجديد تنصّ على (أنّ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي والوحيد للتشريعات في لامصر). هذا وقد قامت لجنة الانتخابات باستبعاده مع أربعة مرشحين آخرين من أحقية الاستمرار في انتخابات الرئاسة، وحتى هذه اللحظة لا يعرف إن كان سيواصل احتجاجه على القرار أم لا، وهل ستتوجه الجماعة لدعم عضوها السابق الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح أم لا؟.
هل يوجد تخوف ما من هذا المشهد؟
حسب رؤيتي وتحليلي ndash; وربما أكون مخطئا ndash; فإنّ جماعة الإخوان المسلمين المصرية عبر تاريخها وتجاربها المريرة مع الأنظمة العسكرية المتعاقبة وفرض الحظر عليها طوال ما يزيد على ستين عاما، تعلمت دروسا مهمة ستعرف من خلالها كيف تتعامل مع نسيج المجتمع المصري بعيدا عن القهر والديكتاتورية المتلحفة بغطاء الإسلام مع أحقية المحافظة على تقاليد المجتمع وأعرافه المنسجمة مع هذه التقاليد دون مصادرة أو التعدي على حقوق الآخرين خاصة الأقباط الذين يشكّلون شريكا أصيلا وعريقا في نسيج المجتمع المصري، مما يستدعي احترام تقاليدهم وأعراف دياناتهم وطرق ممارستهم لهذه الديانة السماوية التي يؤمن بها ملايين منهم في مصر ومليارات عبر العالم.
quot; لكم دينكم ولي دين quot;
ومنبع تفاؤلي هذا هو معرفتي الشخصية الطويلة بالعديد من قيادات هذه الجماعة، إذ يتمتعون بفكر ديني إسلامي منفتح على الآخر ويحترم ديانة وتقاليد هذا الآخر شريكه وأخيه في هذا الوطن في السرّاء والضراء. وأعتقد أنّهم لن يتناسوا أو يقفزوا عن أساسيات في الشريعة حرّفها العديد من أدعياء الدين، ومنها قوله تعالى: (ولكم دينكم ولي دين). و (فيضلّ الله من يشاء ويهدي من يشاء). و (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه ولي حميم). وقول الله تعالى عن الرسول الكريم (وإنّك لعلى خلق عظيم). وقول الرسول نفسه (إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
وسؤال أخير ليبراليين والعلمانيين!!
ما معنى الديمقراطية الحقيقية؟ أليست الديمقراطية الحقيقية تعني الانتخابات النزيهة الشفافة الخالية من أي نوع من الغش والتزوير؟. فماذا إذا أوصلت هذه الديمقراطية اللإخوان المسلمين إلى الحكم والسلطة؟ ألا ينبغي أن نمتثل جميعا لذلك ونحترم قرار وإرادة غالبية الشعب الذين انتخبهم وأوصلهم للسلطة؟. وبعد ذلك فالحكم على ممارساتهم هو الشعب الذي انتخبهم، فإن أوصلوه للرخاء والسعادة فهو المسؤول عن ذلك، وإن أوصلوه للشقاء والجحيم فهو المسول عن ذلك؟. فلنتحكم لإرادة الشعب المصري لنرى من سينتخب ويوصل للسلطة، وبعد ذلك هو مسؤول عن اختياراته البرلمانية والانتخابية.
وهل تجربة حماس و تطبيقاتها في قطاع غزة طوال السنوات السبع الماضية، تزيد من هذه التخوفات لدرجة الرعب؟. هذا ما سأتناوله في المقالة القادمة حيث شهادات العديد من سكان القطاع الذين قابلتهم في القاهرة، خاصة أنّ حماس تعتبر المولود الشرعي لجماعة الإخوان المصرية والأردنية تحديدا..فلننتظر لنرى هل تطبيقات حماس وتصرفاتها تزيل الخوف من صعود الجماعات الإسلامية أم تزيد الرعب لدرجة مخيفة؟.
القاهره
التعليقات