الزائر إلى مصر هذه الأيام خاصة إذا كان ممن يعرفون مصر الستينيات مثلي، وعشت فيها للدراسة حوالي خمسة عشر عاما في كلية الاداب بجامعة القاهرة ثم نفس الكلية بجامعة الإسكندرية في زمن عباقرة مصر مثل الدكاترة شوقي ضيف وسهير القلماوي ويوسف خليف وعبد المحسن طه بدر وزكي العشماوي وآخرون لا يقلون قامة وقيمة عنهم، لا يمكنه إلا أن يحزن ويذرف الدموع على ما هو سائد في مصر عقب ما عرف بثورة الخامس والعشرين من يناير لعام 2011 أي قبل حوالي عاما وأربعة شهور. وهذا بالطبع ليس بكاءا أو ندبا على النظام البائد بأية صورة من الصور، لأنّه كان يستحق الرحيل والمحاكمة لما ألحقه بالشعب المصري وطنا وأرضا وثروة. ولكن هذا الإحساس الحزين هو لأساب عديدة كلها تنطلق من مراعاة مصلحة الشعب المصري الذي أطاح شبابه من ميدان التحرير بذلك النظام مقدمين المئات من الشهداء، ورغم مرور قرابةعام وشهرين على سقوط النظام، إلا أن مظاهر الفوضى غير الخلاقة التي ما زالت تسود الشوارع والأحياء المصرية خاصة ما شاهدته في مدينة القاهرة، لا يليق بثورة يناير التحريرية وشبابها الذي أثبت صمودا وتضحيات ثمينة. أهم هذه المظاهر أو المشاهد التي لا تليق بثورة يناير وترفع الضغط والحزن عند محبي مصر والغالبية العظمى من المصريين الذين تحاورت معهم من مختلف فئات الشعب وهم غاضبون لدرجة الحنق لما يجري هي:

1 . الفوضى التي تسود ميدان التحرير ليلا ونهارا، حيث عشرات الخيام من مختلف الأحجام والألوان، معلّقة عليها شعارات مختلفة متناقضة، من الصعب من خلالها رصد قائمة مطالب موحدة لعموم الشعب المصري، إذ تختلط الشعارات الإسلامية الوسطية بالشعارات الإسلامية السلفية المتطرفة، مرورا بالشعارات القومية العروبية الناصرية..إلى آخر الشعارات التي تحتويها كافة القواميس السياسية منذ قرون إلى اليوم. هذه الخيام وسكّانها الدائمون وزوارهم المرتادون للخيام ليلا ونهارا، وقطعهم المرور من عدة زوايا واتجاهات للميدان، حوّل هذا الميدان التاريخي إلى عدة دويلات خيام مستقلة متنافرة لا تخلو ساعة من اشتباكات بين محتلي الميدان والمارة أو الشرطة التي تحاول التدخل وتنظيم المرور. كما أنّ هذا الاحتلال اليومي الدائم للميدان من هذه الجماعات المتنافرة حوّل الميدان مع الأسف الشديد إلى ساحة من الفوضى والقاذورات والمياة الراكدة والباعة المتجولين و الطاولات المنصوبة لبيع كل ما يخطر على بالك من الشاي إلى القهوة والتمر والساندويتشات والحبوب المنوّمة و حبوب الفياجرا أيضا!!!. هذا الميدان الذي شهد وفجّر ثورة الخامس عشر من يناير التي أطاحت بالنظام البائد وغالبية رموزه من المؤسف جدا ومما لا يليق بالشعب المصري وثورة الشبابية أن يتحول ومنذ أكثر من عام إلى هكذا وضع وبؤر دون أن يتجرأ الجيش أو الشرطة على التدخل لوقف هذه المظاهر...فعلا تحول الميدان كما يقول المثل الشامي (حارة كل من إيدو إلو)، ولا يعبر عن مئات الشعارات المرفوعة فيه إلا (كل يغني على ليلاه) بينما (ليلى الوطن) شبه مغيّبة.

2 . الظاهرة المنتشرة بشكل يقترب من الغوغائية الملهبة لعواطف وليس عقول ألاف من الشباب الواهمين أنّ مصر الأفلاطونية المثالية تكمن في ثنايا (جلابية ) الشيخ السلفي حازم أبو إسماعيل المصري الجنسية ووالدته أمريكة الجنسية لذلك تمّ استبعاده من سباق انتخابات الرئاسة المقررة في نهاية مايو القادم إن أجريت في ميعادها، ولم تصدق سيناريوهات وتحليلات عن احتمال تأجيلها. هذه الظاهرة ( الحازمية ) تعطي دلالات عديدة أهمها: ( كم من الأكاذيب والافتراءات والادعاءات تتغطى للأسف بشعارات دينية الدين الحقيقي منها براء ). ويوازي هذه الظاهرة الانفلات في الشوارع الرئيسية حيث تعتقد نسبة من المواطنين خاصة الباعة المتجولين ( باعة البسطات ) أنّ الشوارع الرئيسية اصبحت ملكا لهم، فمما يثير الحزن على مصر الحضارة أن تنزل بسطات هؤلاء في الشوارع الرئيسية عدة أمتار على اليمين وعدة أمتار على الشمال، مما لا يترك ممرا في الشارع إلا لسيارة واحدة، دون تجرؤ الشرطة الموجودة على وقف تجاوزاتهم هذه.

ورغم ذلك هناك إيجابيات وطنية ثورية
1 . مما يسجل للمجلس العسكري مصادقته على قانون العزل السياسي لفلول النظام السابق، مما نتج عنه رفض ترشيح الفريق أحمد شفيق وزير الطيران السابق في عهد مبارك وآخر رئيس وزراء مصري بعد سقوط نظام مبارك. ومن قبله تمّ شطب اسم مدير المخابرات السابق عمر سليمان بسبب خلل في التوكيلات التي قدّمها لتؤهله لدخول سباق الرئاسة. والأخطر من ذلك ما بدأت الصحافة المصرية تنشره عن ملفات الفساد ونهب الثروة الخاصة بأحمد شفيق. إنّ التقرير الموثق عن هذه السرقات بمليارات الدولارات الذي نشرته جريدة quot;اليوم السابع quot; في صفحتها الرابعة بتاريخ التاسع عشر من أبريل يرقى لحد الإبادة الجماعية لثروة الشعب المصري، وبالطبع هناك العديد من التماسيح السارقين الذين ما زالوا في مصر أو هاربون في الخارج، لكن مسار الثورة لن يتغافل عنهم وسوف تتم محاسبتهم فور عودة الهدوء وتشكيل الحكومة الجديدة التي ستعقب انتخابات الرئاسة القادمة المتوقعة.

2 . قرار وقف تصدير الغاز المصري لدولة الاحتلال الإسرائيلي الذي وقعته الهيئة المصرية للبترول والشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية، ومن المؤكد أنّ هذا التوقيع الذي أدى لإلغاء اتفاقية تصدير الغاز لم يتم دون موافقة ومباركة المجلس العسكري برئاسة المشير حسين طنطاوي، لذلك لا يمكن تصور الفرحة التي عمّت الشارع المصري بكافة اتجاهاته السياسية والاجتماعية، وأجمل تعليق على ذلك سمعته من سائق سيارة أجرة مصري قوله (وقف تصدير الغاز لدولة الاحتلال الإسرائيلي هو رد الشعب المصري على تصدير الاحتلال للقتل الموجه للشعب الفلسطيني).

من هو الرئيس المصري القادم؟
رغم العديد من التكهنات والسيناريوهات والاحتمالات المتداولة في الشارع المصري، ومنها احتمال عدم إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها في نهاية مايو القادم، إلا أن المشير طنطاوي رئيس المجلس العسكري يؤكد في خطابه الذي ألقاه يوم الحادي والعشرين من أبريل على هامش المرحلة الرئيسية للمناورة quot; بدر 2 quot; التي أجرتها إحدى تشكيلات الجيش الميداني الثالث، أنّ المجلس العسكري ملتزم بصياغة دستور يرضي الجميع وتسليم السلطة لنظام مدني في موعدها، وقال quot; إنّ شعب مصر الذي ثار في 25 يناير 2011 مطالبا بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، قادر على اختيار رئيسه القادم، وأنّ القوات المسلحة تقف على مسافة متساوية من جميع الأطراف، ولا تنحاز لطرف على حساب آخر، وأنّها لا تدعم أيا من مرشحي الرئاسةquot;.
وفي هذه الحالة وهذا الموقف من المجلس العسكري، فإن السؤال المتداول في الشارع المصري هو: هل يكون الرئيس المصري القادم هو الدكتور المهندس محمد مرسي، رئيس حزب quot;الحرية والعدالةquot; والعضو السابق بمكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين، أم المفكر الإسلامي محمد سليم العوا، الأمين العام السابق للاتحاد العالمي للعلماء المسلمين؟. خاصة في ظل احتمال عدم التوافق على مرشح إسلامي أو توافقي يدعمه الجميع في ظل إصرار جماعة الإخوان المسلمين حتى هذه اللحظة على دعم مرشحها الدكتور محمد مرسي. وكل مصري ومحب لمصر يتمنى إجراء انتخابات الرئاسة في موعدها وتسليم المجلس العسكري السلطة لحكومة مدنية كي يعبر ميدان التحرير من لحظة الفوضى غير الخلاقة إلى مرحلة التعمير والبناء الخلاق لجميع المصريين.
القاهرة، مصر