أمضيت في القاهرة العاصمة المصرية آخر إسبوعين من أبريل الماضي، تجولت في كافة أحيائها وميادينها وساحاتها وشوارعها ليلا ونهارا رغم المحاذير المتعددة، وقابلت العديد من الأصدقاء أغلبهم من الكتاب والصحفيين المعروفين خاصة في مجال دراسة ومتابعة الحركات الإسلامية والسلفية الصاعدة بسرعة ضوئية بعد سقوط نظام حسني مبارك. خلال هذين الإسبوعين وأنا من درس وعاش في مصر قرابة خمسة عشر عاما، عدت إلى أوسلو عاصمة المملكة النرويجية (المباركة المنصورة بإذن الله بسبب عدلها ورعايتها لمواطنيها الذين هم أغلى ما تملك المملكة)، ولديّ كمية من الحزن والبكاء على حاضر مصر لا يمكن أن يوصف وأمل قوي في مستقبلها في الوقت نفسه...لماذا وما هي حيثيات وأسباب ذلك؟.
لماذا اندلعت الثورة ضد نظام حسني مبارك؟
أليس من أجل الإطاحة بنظام ديكتاتوري فاسد نهب مصر ثروة وشعبا، وقيّد الحريات وقمع التشكيلات الحزبية خاصة ذات التوجهات الإسلامية؟. وقد تحقق هذا الهدف بتنحي حسني مبارك ونظامه في الثاني عشر من فبراير 2011 بعد محاولات ومراوغات عديدة، وسلّم السلطة للمجلس العسكري للقوات المسلحة المصرية. هذا وقد أعلن المجلس وأكّدّ أكثر من مرة علانية على لسان العديد من مسؤوليه خاصة رئيسه المشير حسين طنطاوي، بأنّ المجلس ملتزم بإجراء انتخابات برلمانية نزيهة وهذا ما تحقق بفوز الإسلاميين والسلفيين بغالبية عضوية البرلمان، وهم من كانوا مطاردين في زمن حسني مبارك وألاف منهم في السجون والمعتقلات. وتجري منذ أيام سباقات انتخابات الرئاسة التي يؤكد المجلس العسكري إجراءها في موعدها في الثالث و الرابع والعشرين من مايو الحالي، ثم تسليم السلطة للرئيس المنتخب قبل بداية حزيران 2012 أي بعد ما لا يزيد عن ثلاثة اسابيع من الآن. ومن المهم ملاحظة أن الجيش المصري برئاسة وقيادة المجلس العسكري قد مارس انضباطا عاليا في مجال عدم التعرض للمتظاهرين إلا في حالات نادرة مارس فيها المتظاهرون تجاوزات غير وطنية ولا ثورية بل فوضوية بامتياز.
إزاء هذا الالتزام الواضح من المجلس العسكري بتسليم السلطة بعد ثلاثة أسابيع، فلماذا لايعطي المجلس العسكري فرصة الأسابيع الثلاثة القادمة ليختبر الشعب المصري مدى مصداقيته والتزامه بوعوده؟. ولماذا الاستمرار من الغالبية أحزابا وجماعات وتنظيمات بممارسة المظاهر التالية التي لا تخرج عن توصيف الفوضى والإدعاءات الديكورية التي تشعر من خلالها أنّ كل فرد أو تنظيم لا يتعدى أعضاؤه العشرات يرى بأنّه الأجدر بقيادة الشعب المصري ورئاسته. هذه المظاهر والممارسات التالية تفقد ثورة الشباب المصري وهجها وبريقها وترسل إشارات غير مشجعة للشعوب العربية التي ما زالت تنضّج وتصعّد في الوصول إلى ربيعها المنتظر:
أولا: لماذا الاستمرار في احتلال ميدان التحرير منذ ما يزيد على عام وأربعة شهور، وتحويله إلى ساحة للخيام من مختلف الأشكال والأحجام والألوان والشعارات التي أتحدى أن يستطيع مراقب إحصاؤها أو رصد توجات أصحابها الموزعين بين شباب دون الثامنة عشرة وشيوخ لحاهم أطول من العصي والسيوف التي يلوحون بها، وباعة متجولون حولوا الميدان لبيع الشاي والقهوة والأرجيلة والحبوب المخدرة التي يعرضها عليك شباب دون أن تعرف ما هي هذه الحبوب أو مكوناتها. فعلا لقد تحول الميدان إلى مستنقع من الزبالة والقاذورات والمياه الراكدة، ويتحكم المعتصمون فيه في حركة المرور كما يريدون، يقطعون الشوارع أو يفتحون ممرات للسيارات حسب مزاجهم الثوري الفوضوي دون أن يعرفوا ماذا يريدون. كل هذه الفوضى المدمرة التي لا تليق بثورة الشباب المصري وتضحياته، تحدث والشرطة والجيش قريب منهم لا يتعرض لهم بدليل استمرارهم في احتلال الميدان منذ أكثر من عام وأربعة شهور.
ثانيا: لماذا الاستمرار في احتلال جانبي الشوارع الرئيسية خاصة شارع ( طلعت حرب ) و ( عماد الدين ) من باعة البسطات الذين ينزلون بسطاتهم على جانبي الشارع ولا يتركون ممرا إلا لسيارة واحدة، وشرطة المرور موجودة أمامهم ولا تجرؤ على الطلب منهم فتح الشوارع، لأنّ غالبية هؤلاء الباعة مستنفرين للقتال والتصدي بالعصى والخناجر، والمبكي الشعارات التي يرفعونها فوق بسطاتهم. تصوروا أن بائعا منهم يقف فوق البسطة عاليا ويرفع يافطة مكتوب عليها وهو يصرخ ( أنا حرامي ).
ثالثا: أمّا فوضى المرشحين للرئاسة فلا تقل عن فوضى الشارع المذكورة، فقد غطّت لافتات دعايتهم كافة حوائط الشوارع المصرية بشكل منفّر، لا يقبله عقل في أية قرية أو مخيم للاجئين. من يتخيل أن تمثال ( طلعت حرب ) مؤسس النهضة الاقتصادية المصرية ( 1867 ndash; 1941 ) تغطية لافتات وملصقات مرشحي الرئاسة وبعضهم لا يعرفه ولم يسمع به إلا زوجته وأولاده. هل يعرف هؤلاء المرشحون أنّ هذا لا يليق بالمرحوم طلعت حرب مؤسس بنك مصر و شركة مصر للطيران وشركة مصر للطباعة وشركة بيع المصنوعات المصرية وشركات القطن والكيماويات المختلفة وصناعة السينما أيضا.
رابعا: ظاهرة استغلال الدين وشعاراته خاصة من شيوخ أدعياء كذبة أشهرهم المدعو ( حازم أبو اسماعيل ) الذي يقدّم نفسه على أنّه شيخ وداعية إسلامي ويمارس الكذب علانية خاصة فيما يتعلق بجنسية والدته الأمريكية التي بسببها تم شطب اسمه من قائمة مرشحي الرئاسة، وقد ثبت ذلك من خلال الوثائق الرسمية لوزارة الخارجية الأمريكية وشهود مصريون يعرفونه ويعرفون المرحومة والدته، ورغم ذلك ما يزال يضحك و يستغبي عقول بعض الشباب الذين يستمرون في الصراخ والهتافات والشعارات الخالية من أي مضمون منذ أكثر من عام، وفي أية لحظة يتركون الميدان ويتجولون متظاهرين في الشوارع الرئيسية القريبة منه قاطعين الطرق ومعطلين أعمال الشعب. إنّ ظاهرة حازم أبو اسماعيل أسوأ دعاية ضد الإسلام وممارسات المسلمين، ويستمر واعدا الشباب المضلل بمفاجآت لا تعدو أن تكون ديكورات وادعاءات لا تصمد أمام واقع ثورة الشعب المصري وتضحياته.
خامسا: أحداث ميدان العباسية المؤسفة الاسبوع الماضي، ولا داعي للتفاصيل فيها فالكل يعرف ما جرى، ولكن الإدانة هي لمحاولة البعض مهاجمة وتدمير وزارة الدفاع رمز الجيش المصري الذي هو رمز للشعب المصري وبطولاته وصموده.
سادسا: فوضى الإعلام غير المنضبط الذي يسهم في تهييج الجماهير التي تنتظر أية اشاعة أو معلومة مضلله كي تخرج للتظاهر والصراخ، كما حدث أمام السفارة السعودية في القاهرة، وأدّى إلى سحب السفير السعودي وإغلاق السفارة والقنصليتين السعوديتين في الاسكندرية والسويس، ولكّن العاهل السعودي تصرف بحكمة وروية إزاء هذه التعديات، فاستقبل بحفاوة الوفد الشعبي المصري، وأعاد السفير السعودي إلى القاهرة وفتح القنصليتين، ويعلن السفير السعودي أحمد عبد العزيزقطّان بأن السفارة والقنصليتين ستضاعف ساعات العمل لإنجاز كافة معاملات الشعب المصري بسرعة قياسية، وأنّ المملكة العربية السعودية لم تطلب اعتذارا من مصر عمّا حدث احتراما للعلاقات الطويلة والعميقة بين البلدين.
النتيجة المطلوب ايصالها بصوت عال،
وكما لمستها وسمعتها من غالبية المثقفين والمتنورين المصريين، وأؤيدها بقوة ووضوح، هي أنّه لا لعودة النظام السابق وأي رمز من رموزه، ونعم لانتخابات رئاسية حرّة ديمقراطية نزيهة شفافة، على أن تجري في موعدها المحدد، وبعدها يقوم المجلس العسكري بتسليم السلطة لحكومة مدنية، ويعود إلى ثكناته حيث مهمته الحفاظ على أمن مصر الداخلي والخارجي كما يؤكد دوما المشير حسين طنطاوي. وفي الوقت نفسه لا كبيرة وصريحة لمظاهر الفوضى والتعديات هذه التي أضرّت بواقع الشعب المصري واقتصاده الذي يعاني من معضلات كبيرة. وكلي أمل أن هذا الحزن سيتحول إلى فرح عارم بعد الرابع والعشرين من مايو عند تسليم السلطة للرئيس المنتخب، وعندئذ تكون ثورة الشباب المصري قد حققت هدفها الاستراتيجي، و أيا كانت هوية وميول وسياسة الرئيس المنتخب فالشعب المصري الصابر الذي انتخبه هو من سيحكم على تصرفاته وإدارته للبلاد التي هي ركيزة العالم العربي الأساسية.
التعليقات