أستسمح المسئولين في quot;إيلافquot; والقراء الأعزاء ترك مساحة هذا المقال للمفكر الفلسطيني quot;هشام شرابيquot; (1927 ndash; 2005)، ليلخص بأسلوبه الخاص ما حدث ويستشرف لنا ما سوف يحدث في قادم الأيام، من خلال بعض شذرات كتابه العلامة: quot;البنية البطركية: بحث في المجتمع العربي المعاصرquot;، الصادر عن دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولي 1987.

اليقظة العربية كانت صراعا ثقافيا واجتماعيا بين نظريتين: العلمانية، التي اتخذت الحضارة الغربية نموذجا ضمنيا أو صريحا. والاصولية الدينية، التي تمسكت بالاسلام بوصفه مصدر الشرعية والإلهام.quot; وهكذا فإن الحركة العلمانية، المعبر عنها في الايديولوجيات الليبرالية والقومية والاشتراكية، والحركة الأصولية، المرتكزة علي عناصر الاسلام الاصلاحية والمحافظة والمتسيسة، قد قدمتا لليقظة العربية quot;نظامي الحقيقةquot; الأساسيين، اللذين سيطرا علي المراحل التالية للمجتمع البطركي الحديث. والواقع انه لا الحركة العلمانية ولا الحركة الاسلامية نجحت في انشاء مقال نقدي أو تحليلي بالمعني الصحيح، مقال يقدم حلا واضحا وفعليا لمشكلات الهوية والتاريخ والغرب.
ان التيار الاسلامي، سواء في شكله الاصلاحي أو شكليه المحافظ والمسيس، قد نظرا إلي التاريخ والغرب من زاوية ايديولوجية. ولم ير في الماضي سوي تجسيد لحقيقة الاسلام وعصره الذهبي. كما انه لم ير في الغرب سوي نفي لذلك.quot; ص: 24.

quot;أما المقال العلماني، المبني أيضا علي موقف إيديولوجي، لكن المقرون بالقومية والليبرالية والاشتراكية وquot;العلمquot; بدلا من quot;الدينquot; كمرتكز أساسي، فقد نظر إلي الماضي علي انه قيمة تتضمن الهوية والقوة (تفوق التراث القومي)، وهما شرطان مسبقان للتعامل مع الغرب، مع شعور بالإعجاب به والخوف منه في آن (تبدو الايديولوجية العلمانية هنا بديلا رمزيا للغرب). وهكذا فإن البحث عن الهوية، أو تأكيدها، بشكليها العلماني والديني، قد حدث في حيز سياسي وثقافي نظر فيه إلي التاريخ والغرب بوصفهما قطبين متداخلين ومتناقضين، كما أن كلا من الجانبين سعي إلي الارتكاز علي قطبه لتوكيد ذاته وايجاد أساس لهويته في الاسلام أو في العروبةquot; ص: 24-25.ذ

quot;المجتمع البطركي الحديث، مجتمع عاجز، متناقض ومتضارب في تركيبه الداخلي، وإحدي الظوهر الرئيسية لهذا العجز، هي الصراع الداخلي بين النزعة العلمانية والنزعة الإسلامية. انه صراع تعود جذوره إلي أوائل عهد اليقظة، كما انه يبدو حاليا في ذروته. لكن النزعة الإسلامية أصبحت مجسدة في حركة جماهيرية، في حين أن النزعة العلمانية مازالت حركة طليعية تنتهج النقد الجذري. وهي لم تتوصل بعد إلي إقامة جسور تربطها بالحركات الجماهيرية، ومنها حركة النسائية علي وجه الخصوصquot;. ص: 2

quot;مع أن الحركة الأصولية الإسلامية قد تتمكن من هدم النظام البطركي الحديث والإستيلاء علي الحكم، فهي عاجزة عن تقديم أي علاج دائم نتيجة للأختلالات البنيوية الموجودة في هذا النظام. فالحركة الأصولية، بوصفها حركة طوباوية مثالية، لا تستطيع سوي معالجة الظواهر. وستكون حلولها مطبوعة بالتسلط والعنف، كما في المجتمع البطركي الحديث. لذلك أقول: لو أتيح لها الإطاحة بالمجتمع البطركي الحديث (أو إذا سببت إنحلاله من الداخل دون اللجوء إلي العنف الإنقلابي) لما أدي ذلك إلي مجتمع طاهر تسوده الأخلاق والقيم الدينية بل لأدي، علي العكس، إلي مجتمع بطركي تقليدي.quot;. ص: 25.

quot;لا شك في أن الحركة النقدية العلمانية تعاني ضعفا خطيرا. فهي، علي العكس من الحركة الأصولية، حركة غير جماهيرية، تواجهها، بوصفها مقطوعة الصلة بالجماهير، عقبة مزدوجة. فهي لا تتمتع وحسب بسلطة سياسية محدودة (إذ يعوزها التنظيم السياسي، بل نجد فعاليتها كذلك مخنوقة نتيجة لرقابة الدولة ومعارضة الرأي العام الديني) في حين أن بإمكان الحركة الأصولية، بفعل جاذبيتها الدينية، أن تحرج النظام القائم وتضعه في موقف دفاعي.
لكن العقبة الكبري التي تواجهها الحركة النقدية العلمانية ناجمة من الحركة الأصولية نفسها. فالأصوليون يرفضون الدخول في نقاش عقلاني ويصرون علي أن الإيمان الديني (العودة إلي الصراط المستقيم) لا الحوار والتبادل الفكري هو السبيل إلي حل الخلاف. وهكذا تظهر الحركة النقدية العلمانية بمظهر النظرة المضادة للدين والإيمان ويضطر النقاد الجذريون إلي اتخاذ مواقف دفاعية بدلا من التركيز علي إيجاد البديل العقلاني للمقال الأصولي. ولا شك في أن الحركة الأصولية ستقضي علي إمكانية أي نوع من أنواع الحوار العقلاني إذا أتيح لها يوما تسلم الحكم.
في حين نري أن معظم الأنظمة العربية تهاجم النقاد الجذريين وتقمعهم، نري بالمقابل أن الناطقين بإسم الحركة الأصولية يتمتعون بحرية الإعلان عن عقيدتهم علي الملأ (كما انهم يتلقون دعما واسعا من مؤسسات الدولة ووسائل الإعلام التابعة لها). والواقع أن الحركة الأصولية الإسلامية تستمد الكثير من قوتها من ضعف الطبقات الحاكمة التي تحاول توكيدا لشرعيتها، ان تتمسك بالأسس نفسها التي استندت إليها الحركة الأصوليةquot; ص: 26. هشام شرابي