في مرحلة وزمان المعارضة العراقية التي سبقت الإحتلال الأمريكي للعراق و تغيير صورة وشكل و طبيعة إدارة الصراع الداخلي في العراق، برزت أسماء و مسميات و شخصيات سياسية وإعلامية لعبت دورا كبيرا في تلك المرحلة، ولكن للأسف لم تستمر الأمور كذلك بعد الإحتلال وإسقاط نظام صدام بقوة السلاح الأمريكي، فمثلا كان شيخ المعارضين العراقيين وأكثرهم بروزا إعلاميا في أواسط ثمانينيات القرن الماضي هو السيد سعد صالح جبر رئيس حزب الأمة الجديد ثم رئيس المجلس العراقي الحر، وقد لعب ذلك الرجل الكريم و الشجاع دورا إعلاميا وسياسيا مهما للغاية وغامر بصحته وأمنه وثروته التي تبددت على مذبح المعارضة العراقية، لم يستفد من زمن المعارضة فقد كان العالم بأسره بما فيه الغرب مع نظام صدام و كان العالم العربي في المرحلة التي سبقت غزو صدام لدولة الكويت عام 1990 ينظر للمعارضين العراقيين بصفة الخارجين على القانون. ولم يكن العرب لا في المحيط ولا في الخليج يتقربون من المعارضة العراقية بل كانوا يعتبرونهم رجسا من عمل الشيطان فتجنبوه بالكامل، وحده النظام السوري كان يتلاعب و يلعب بلعبة المعارضة العراقية لأنها كانت جزء لا يتجزأ من حالة التنافس و العداء و التآمر المتبادل بين طرفي نظام البعث المتخاصم في البلدين. في ذلك الزمن الذي يبدو بعيدا كان سعد صالح جبر يغامر بأمنه الشخصي و ثروته الخاصة في مواجهة نظام صدامي قمعي عرف بملاحقة معارضيه و قتلهم ولو كانوا في أقصى الأرض كما حصل مع معارضين يساريين في عدن و بيروت أو قوميين في لندن أو دينيين في الخرطوم حينما أغتيل المرحوم السيد مهدي الحكيم بينما كان في ضيافة الشيخ حسن الترابي وفي زمن حكومة الصادق المهدي عام 1988، وحده سعد صالح جبر كان يرفع قفاز التحدي بينما كان جماعة النظام الإيراني من أحزاب الدعوة و المجلس وغيرهم يلوذون بالصمت الرهيب أو يتحصنون في مواقعهم الطهرانية وقد بلغ بهم الإحباط أقصى مدياته بعد قبول الخميني بوقف الحرب مع العراق و تجرع كأس السم الشهير بعد أن فشل في تحقيق وعوده و شعاراته ( بفتح كربلاء )؟ أو كما كان يقول الخطاب الدعائي الإيراني بالفارسية ( براي فتح كربلا.. مهدي بيا.. براي دفن شهدا.. مهدي بيا )!! أي من أجل فتح و تحرير كربلاء تعال يا مهدي و من أجل دفن الشهداء تعال يا مهدي! المهم إنه لم يأت أحد بالمرة و تعايش الإيرانيون من جديد مع نظام صدام بل أقاموا في زمن رئاسة البراغماتي هاشمي رفسنجاني علاقات سياسية وإقتصادية قوية للغاية إلى الدرجة التي دفعت نائب صدام عزة الدوري إلى تصديق نفسه و الإتفاق مع الإيرانيين على إرسال الطائرات الحربية العراقية بصفة لجوء لطهران لحمايتها من غارات قوات التحالف بعد غزو الكويت!!! وهي مهمة غبية للغاية ولايوجد ما يشابه سذاجتها المفرطة في تاريخ العلاقات الدولية؟ فحصل ما حصل و أبتلع النظام الإيراني تلكم الطائرات بل أنكر وجودها بالمرة!! فيما أعتبرها ذلك النظام كجزء من تعويضات حربية ضخمة كان يطالب بها النظام الإيراني ولم يحصل عليها مطلقا لعدم تضمن ذلك الأمر في أي قرار دولي، وكانت الفرصة متاحة للإيرانيين بعد غزو الكويت لإستكمال مافشلوا في تحقيقه سابقا!! المهم إن المعارضة الإسلامية وقتذاك هرب عناصرها للمنافي وللدول المانحة للجوء من أستراليا شرقا وحتى أمريكا غربا دون أن ننسى غابات آسيا و أفريقيا وبلاد ماوراء النهر ضمن ملحمة ( الدياسبورا ) العراقية أو الشتات الكبير!، وبما أن لكل زمان دولة ورجال فقد ظهر بعد غزو الكويت جيل جديد من المعارضين العراقيين أستطيع تسميته بجيل ( رفحاء ) نسبة لمعسكر اللجوء السعودي في شمال السعودية الذي إحتوى جماهير الإنتفاضة الجنوبية بعد الهزيمة المرة في الكويت عام 1991. وكان من ضمن جموع اللاجئين جمهرة من العسكريين و الضباط العراقيين كان من ضمنهم العميد وقتذاك السيد توفيق الياسري الذي أصيب في يده خلال مقاومته لقوات الحرس الجمهوري بعد أن إنشق على الجيش التابع لصدام حسين، وبعد سيطرة نظام صدام على الأوضاع و تمكنه من إحتواء الإنتفاضة ودخول العراق في نفق الحصار الدولي الشرس، كان لتوفيق الياسري تواجده الملموس في العاصمة البريطانية والتي إنطلق منها أواخر تسعينيات القرن الماضي ليؤسس حركة سياسية سميت وقتها ( الإئتلاف الوطني العراقي ) والذي كان السيد الياسري أمينها العام و كان كاتب هذه السطور و هو أنا الناطق الإعلامي بإسمها و مدبج بياناتها النارية و أشهد أمام الله و التاريخ بأن نشاط ذلك الإئتلاف كان صادقا وينبع من حرص وطني حقيقي إذ لم يدفع أي طرف لا عربي و لا أجنبي شيئا لذلك التجمع وكل النشاطات كانت بمثابة جهود تطوعية خالية من أي أرباح مادية. ولمن يعرف السيد توفيق الياسري يعلم أنه عقلية إدارية مرتبة إضافة إلى ما يتمتع به من دماثة خلق وخصال إنسانية لا أراني مضطرا لتبيانها لأنها معروفة للجميع، و لكن التطورات السياسية لا تعرف الرحمة و لا تعترف بالأخلاق و المثل، فما أن أصدرت إدارة الرئيس الأمريكي السابق قانون ( تحرير العراق ) عام 1998 حتى ظهرت و تناسلت التجمعات الطائفية و الدينية و العنصرية وأضحت القضية العراقية بمثابة عملية تجارية محضة ليظهر التجار رؤوسهم و تنسحب قوافل الوطنيين من المشهد العام لتكون الصورة تراجيديا كبرى بعد إحتلال العراق أمريكيا في 9 نيسان/ إبريل 2003 ولتتغير معطيات الصراع الوطني وحتى أدواته ويدخل العراق في نفق عملية تحاصصية و طائفية مشبوهة لم تحقق الأحلام الوطنية التي ناضلت طويلا ضد الفاشية البعثية، و سرعان ما تسيد الموقف ركاب القطار الأمريكي في محطته الأخيرة والتي إستقلوها من محطة ( هيلتون لندن ) في إدجوار رود، ليتم تناسي كل جهود و تضحيات المعارض الوطني القديم سعد صالح جبر بل و محاولة محوه من سجلات التاريخ الوطني!! و ليعود السيد توفيق الياسري لبغداد وكان مرشحا حقيقيا لوزارة الداخلية عام 2004 قبل أن يتم خطفه من منزله في اليرموك في عملية إرهابية كان من دبرها ( السيد...) و أترك إسمه للزمان لعدم رغبة السيد الياسري شخصيا في إماطة اللثام عن إسم ذلك الطرف، المهم إن توفيق الياسري أبعد تماما عن وزارة الداخلية و لكنه ظل قريبا من أطراف السلطة بصفة مستشار لا يستشار كالعادة، و كان قد رشح أيضا لمنصب إدارة المخابرات العراقية بعد اللواء الشهواني ولكن ظل بصفة مرشح ولم يبتعد عن تلك الصفة حتى اليوم، و لكن في حكومة المالكي التي خلت من الوزراء الأمنيين كالداخلية و الدفاع وحيث أنفرد أهل حزب الدعوة بقيادة وزارة الداخلية تحت إدارة وكيلها الأقدم عدنان الأسدي كان السيد الياسري قد ترشح من جديد لوزارة الداخلية أيضا ولكن من دون الوصول لتوافقات. لذلك فإنني حين قرأت المقابلة التي أجراها الفريق الياسري مع صحيفة إيلاف الإلكترونية مؤخرا تعجبت ودهشت من الطرح الجديد و الرؤية الأمنية الجديدة لتداعيات سقوط النظام السوري على أمن العراق؟ فالسيد الياسري قال بالحرف الواحد ( إن حصل شيء في سوريا وسقط نظام بشار..)! فهل لا يعلم الفريق الياسري حتى اليوم بأن النظام السوري ساقط لا محالة وإنها لا مجال أبدا لتعويم و إنقاذ ذلك النظام بعد أن إرتكب من الجرائم ما أرتكب خلال عام و نصف من عمر الثورة السورية؟ و كيف يغير المرء قناعاته و توجهاته بكل هذه السرعة خصوصا و أنه يعلم علم اليقين بأن فصلا مهما و فاعلا من فصول الإرهاب الأسود في العراق كان يدار عن طريق مخابرات بشار الأسد ووفقا لشكوى نوري المالكي نفسه وهو غير البعيد عن أوساط النظام السوري بل أنه الضليع الأول في معرفة طبيعته و خباياه!، ثم جاء إنشقاق السفير السوري السابق في العراق ورجل المخابرات السورية نواف الفارس ليؤكد هذه الحقيقة المعروفة للجميع... مصيبة حقيقية أن يفكر خبير ستراتيجي بوزن وخبرة الفريق توفيق الياسري بأنه بالإمكان إعادة تعويم النظام السوري؟ و عجيب أيضا أن لايطرح السيد الياسري ضرورة التعاطي البناء مع المعارضة السورية وكذلك مع الجيش السوري الحر لنزع فتيل التوتر الطائفي وحصر الخلاف ضمن الرؤية السياسية وليست المذهبية، فمعرفتي الشخصية بتوفيق الياسري تجعلني أجزم بأنه شخصيا لا يكن أي ود ولا إحترام للنظام السوري الذي هو النسخة الأخرى من نظام البعث الفاشي، كما أن الفريق توفيق يعرف أيضا بأن اي دفاع عن نظام دمشق هو بمثابة إنتحار حتمي لأي سياسي... فأين هي المصلحة العراقية في إستمرار نظام بشار الأسد؟.. يبدو أن الفريق توفيق الياسري يذهب للحج و الناس راجعة..!.. و تلك هي المعضلة.
- آخر تحديث :
التعليقات