سكت دهرا ونطق كفرا هذا ما ينطبق على تصريحات الرئيس الأمريكي باراك أوباما مؤخرا حين قال بأن الولايات المتحدة على استعداد للتدخل العسكري في سورية اذا استخدم الأسد الأسلحة الكيماوية والبيولوجية ضد شعبه, أو كان هناك خطرا من انتقال تلك الاسلحة الى أيدي جماعات متطرفة, مانحا بهذا التصريح شهادة حسن سلوك للنظام عبر تفضيله اللا مباشر على قوى الثورة المسلحة, كذلك كأنه يقول لنظام البعث استعمل ما شئت من الأسلحة التقليدية لكن ابتعد عن استعمال الكيماوية والجرثومية منها. هذا السلوك ليس نابعا من الخشية على الشعب السوري كما يدعي فالموت واحد ولو اختلفت أدوات القتل. نبرة الوعيد هذه لم تأتي ارضاء للرأي العام الأمريكي ولا العالمي حيث لا يبدو عليهما الاكتراث لما يجري في سورية من مذابح وانتهاكات, هذا التهديد جاء بسبب الخشية على أهداف استراتيجية أخرى قد يكون أمن اسرائيل أهمها.
المأساة السورية تطول وعذاباتها تستمر لأن المجتمع الدولي لا يستطيع الاتفاق على رأي موحّد, يقول ميلتون أ. بيردن أحد الخبراء الذين عملوا مع الاستخبارات الأمريكية لدعم المقاتلين الأفغان في الثمانينات لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية (بأن التعقيد الذي يحيط بالوضع السوري اليوم يجعلنا نرى بأن حرب أفغانستان في العام 1985 كانت سهلة ), يقول اخر حروب البوسنة والهرسك القديمة والحديثة بمثابة المناوشات البسيطة مقارنة مع ما يمكن أن يحدث في سورية ويحذر ثالث من خطورة نشوب حرب عالمية ثالثة في حال التدخل العسكري في سورية هذه الأقاويل لا تشكل سوى عملية ترديد لما كان يهدد به القذافي قبل سقوطه وما ينذر الأسد به من الزلازل. التعقيدات الاقليمية والدولية وحتى الداخلية في سورية مهما بلغت لا تغير من واقع أنه حرب نظام ظالم, مستبد, مدعوم من قوة عظمى دولية وأخرى اقليمية كلتاهما مستبدتان أيضا ضد شعب مظلوم مدعوم من أسرة دولية مذعورة فاقدة لقدرة الحزم في مواقفها متعظة من أوجاع تجاربها البائسة في المنطقة.
تشتت المعارضة أيضا من الأسباب المساعدة لاستمرار الأزمة لكنها الأقل أهمية مقارنة مع سلوك العالم الخارجي وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية.
المجتمع الدولي يتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية الأخلاقية والقانونية حيال الانتهاكات التي باتت حدثا يوميا في سورية وحتى عن خطورة التوجه نحو الاقتتال الطائفي الذي بدأ يتسرب الى لبنان.
اذا كانت كل الدلائل المنطقية تشير الى حتمية سقوط النظام القائم , فهل تريد القوى العالمية رؤية سورية محطمة البنية وشعب مشحون بنيران الغل والكراهية ضد الغرب والشرق وتربة خصبة لنمو التطرف وبؤر الإرهاب ؟ هل في مصلحتها أن تقوم حروبا أهلية في الدول المجاورة لسورية بالوكالة؟
النظام السوري نفسه يتمتع بالذكاء الكافي فهو لن يعترف بالحرب على الأسس المذهبية على الرغم من محاولته تأجيجها وسيبقى مصرّا على تسميتها بالحرب ضد الجماعات المتطرفة وإلا فما الذي يدع الجنود السنة مثابرين على القتال في صفوف جيش يقود حربا ضد طائفتهم.
الاستمرار في سياسة التباطؤ وانتظار ما ستؤول اليه الأمور والتذرع بالخشية من نشوب حرب أهلية وانتشارها في المنطقة المجاورة , لا تحمل في طياتها تحليلا واحدا منطقيا وكلها ذرائع واهية تخفي وراءها نوايا خفية مبهمة للغرب والشرق معا حول ماهية الدولة والنظام التي يريدونها لسورية الغد.
دول الجوار لبنان الخاصرة الأضعف والأكثر حساسية وتأثرا بالواقع السوري هذه الدولة الصغيرة لها تجربتها الكبيرة والأليمة فهي اكتوت بنصيبها من نيران الحرب الأهلية التي دامت خمسة عشر عاما عانت ماعانت في أتونها وليس لديها أقل شهية للبدء في حروب داخلية جديدة هي تعلم مقدما بأن الكل خاسر فيها, الاشتباكات الأخيرة في طرابلس مذهبية بامتياز ولكن الذي يغذيها هو وجود النظام في دمشق على رأس السلطة واستمرار تمتعه بقوة التأثير والتحريض ,ستنتهي بانتهاء المحرّض على تأجيج الوضع والذي لا يفتأ يهدد بإشعال المنطقة وبنشر الحرب المذهبية بالوكالة.
الأردن لا تعاني من احتقانات مذهبية كي تتفجر متأثرة بالوضع السوري.
العراق تسير في رحلة التئام جراحها وتمضي باتجاه الدولة الحديثة في محاولة تثبيت الأمن وليس هناك خطر عليها الا من التأثير الايراني الذي بدوره سوف يضعف بشكل كبير بمجرد زوال حليفها.
تركيا تعاني من هجمات حزب العمال الكردستاني لكن هذا ليس جديدا عليها, سوف تبقى تعاني من الاقتتال مع الثوار الكرد في حرب لن تنتهي لا ببقاء الأسد ولا برحليه بل بالجلوس على طاولة الحوار مع ممثلي الشعب الكردي ومنحهم حقوقهم القومية المشروعة بموجب الأعراف والمواثيق الدولية.
تبقى اسرائيل التي أصابتها البارانويا من نوع الحكم القادم منذ اندلاع الانتفاضة في سورية فهي تعرف العدو الحالي وسقف امكاناته لكنها لا تعرف المجهول القادم, مع التحولات التي طرأت على مسار الثورة وارتفاع صوت الاسلاميين فيها أصبحت تميل أكثر فأكثر لصالح النظام.
الخريف الاعتيادي في سورية يبدأ مع احساس رائع بنوع من الخفوت في درجة حرارة الصيف الملتهبة منذرا بالتحول الفصلي, انتشار سحب من الغيوم المتناثرة التي تحجب أشعة الشمس القوية وتخيّم ظلالا خفيفة على مساحات شاسعة من الوطن, بين الآونة والأخرى تبدأ زوبعة ترابية سريعة تحمل معها بقايا القش والأشواك اليابسة المتناثرة هنا وهناك , تمضي في سير حلزوني سريع باتجاه الرياح جنوبية حينا وشمالية أحيانا أخرى. أهلنا في ريف سورية ومدنها عادة يستقبلون خريفهم بوداعة وتفاؤل مرفقا باستعدادات جمة, يبدؤون بتأمين اللوازم المدرسية لأطفالهم, لكنهم مازالوا مكلمين هذا الخريف أيضا منهمكين في تضميد جراحهم, لملمة أشتاتهم المبعثرة داخل البلد المنكوب, على تخومه وأطرافه.
لا يراودني الشك ومضة بأن هناك خريفا قادما مليئا بأسباب السعادة فيه يتراكض الأطفال لحمل لوازم مدرسية جديدة لا تحمل رموز الطاغية وشعارات حزبه الساقط بكل تأكيد, أما الأسد وزمرته فهذا هو خريفهم الأخير.
مترجم وكاتب سوري مقيم في ستوكهولم
[email protected]
التعليقات