إن ما يعرض من القنوات الفضائية الأسلامية quot;الشيعيةquot; عن الإمام الحسين عليه السلام وعن معركة الطف سواء في العراق ولبنان أو في إيران فأنه يدعو إلى الخجل والشعور بالسذاجة وتردي في القيم الجمالية. لأن ملحمة الطف لو كان لها شبيه في تراث الشعوب لظهرت منها وعنها روايات بدلالات هي غير ما نسمعه وما نراه من القنوات الفضائية الشيعية. ولتم إنتاج الأعمال الدرامية التلفزيونية والسينمائية مستخلصين أهدافها، مضامينها، وأشكالها الفنية. فهي مادة خصبة للكتابة والثقافة المرئية، لكن ما نراه كل عام إنما يثير الشفقة أكثر مما يثير الإعجاب سيما بالنسبة للوعي الثقافي الذي ينبغي أن يسود في قراءة التاريخ وقراءة الحقائق من منطلق المنطق والحب في ذات الوقت. وأيضا من منطلق العلاقة بين المبدع والمتلقي.
مذ كنا صغارا ونحن نحضر قراءات المنابر الحسينية كنا نرى ملصقات لأهل البيت ولواقعة الطف ونرى عند المزججين صورا للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وقد وضع سيفه ذي الفقار في حضنه وصورة للحسين والعباس عليهم السلام وكلها مزججة ومؤطرة بإطارات عريضة كان الناس يزينون بها محالهم وبيوتهم لكي تحل فيها البركة. وكانت بعض الملصقات تحمل رايات ولافتات في زيارات عاشوراء في محرم الحرام. وثمة لوحة كانت تعلق في مجالس عاشوراء وتمثل إنتقام المختار الذي وضع خصومه في قدور كبيرة تشتعل النار تحتها وهم يتضورون ألما. ولوحة أخرى للعباس حاملا الراية وقد كتب على الصورة قمر بني هاشم، وثمة صورة للإمام الحسين بملابسه الأنيقة وعباءته الثمينة وعمامته المحكمة الصنعة.
أما صورة السيدة زينب أخت الإمام الحسين عليهما السلام فكانت غير منتشرة كثيراً ولكن نجدها في لوحات مرسومة على الأقمشة على شكل أمرأة بعباءة سوداء وتغطي وجهها ببرقع أبيض يسمى في العراقي quot;بوشيquot; وأظنها كلمة إيرانية ويستعملها الخليجيون أيضا وتسمى quot;البوشيهquot; إذ لا يرى من وجهها أي معلم أنساني. وهو الشكل الذي تقدمه مسرحة الطف في ذكراها بما يسمى quot;التشابيهquot; أي التمثيل بما يشبه الوقائع. أيضا نرى أمرأة ضمن الطقوس ترتدي العباءة السوداء وتضع البرقع الأبيض quot;البوشيquot; على وجهها!
هل هذه الصور والملصقات تمثل شخصيات أهل البيت أو هل هي قريبة منهم؟ ومن رسمها؟ ولأية ملامح إنسانية تنتمي؟ وما دور المخيلة الشعبية والوجدان الشعبي في هذه الصور والملصقات؟ وهل تندرج ضمن الموقف الإيجابي لملحمة الطف أم تؤدي إلى حالة سلبية عن شكل ومضامين ما حصل للإمام الحسين وأهله وأنصاره في العاشر من شهر محرم الحرام؟!
الوجدان الشعبي في ملحمة الطف ورواية الإمام الحسين عليه السلام هو عامل صوفي، إنساني، ومهم. وبقدر ما فيه من المخيلة المثيرة للعواطف فإنه قد ينطوي أحيانا على مخاطر قد تقود الملحمة الحسينية نحو الخرافات!
لقد أضاف الوجدان الشعبي لحكاية وموقف الإمام الحسين لحظة إستشهادة على سبيل المثال مقولة قريبة من شخصه حيث ورد على لسانه quot;إن كان دين محمد لن يستقم إلا بقتلي يا سيوف خذينيquot; هذه المقولة لم ترد على لسان الإمام الحسين عليه السلام لحظة إستشهاده، لكنها مقولة صحيحة وكان من الممكن أن يقولها الإمام الحسين وهي فكرة إستشهاده أن يشكل ذلك الإستشهاد المثل النموذج في حفظ رسالة الرسول (ص) وهي إضافة وجدانية وإيجابية. لكن الوجدان الشعبي بالمقابل أضاف حكايات في مسار الملحمة المؤثرة ما أثر سلبا على مسار الإمام الحسين في حركته العادلة وطبيعتها ومضمونها وفي معاناته في المعركة والمواجهة مع الأعداء.
وهذا الوجدان الشعبي في رواية ملحمة الطف موجود أيضا في الصور الثابتة والمتحركة وفي الملصقات. ففي إيران بادر أحد الرسامين من محبي أهل البيت والإمام الحسين لرسم وقائع الطف والمعركة وشخوصها متيمنا بأهل البيت وقد رست مخيلته على وقائع روايات المقتل وأصدرتها إيران في ألبوم ملون وهو كتاب جدير بأن يحتفظ به في المكتبات، لكن ملامح شخصوص الملحمة الحسينية ليست بملامح عربية حيث تلمس بالضرورة الإنتمائية للرسام وجوها إيرانية وهي ذات الملامح في الصورة التقليدية للإمام الحسين والمتداولة في الوسط الشعبي العراقي والوسط الإسلامي العربي.
عندما تم تنفيذ مسلسل الإمام علي عليه السلام quot;إيرانياquot; ولنقل إسلاميا فإن الإمام الخامنئي لم يكن مرتاحا للمسلسل وقال بصريح العبارة quot;لا يمكنني تصور الإمام علي وهو يتحدث الفارسيةquot; لأن اللغة هي جزء من بناء الشخصية وليست وسيلة تواصل فحسب. لذلك لا يجوز أنتاج أية صورة أو مشهد متلفز أو سينمائي أو ممسرح بمواصفات السحنة الإيرانية لشخصيات أهل البيت التي هي من الجزيرة العربية، وبالملابس العربية المتناسبة مع الواقع الإجتماعي والواقع الطقسي.
هذا الكلام ينطبق على صور الإمام علي بن أبي طالب وصور الإمام الحسين وأخيه العباس وصورة السيدة زينب ولوحات واقعة الطف.
وفي الوقت الذي يحق فيه لأي رسام أن يتصور هيئة الإمام الحسين والإمام علي فإن دراسة وجوه هذه الشخصيات المقدسة في التاريخ الإنساني يجب أن تنطلق من منطلق مدروس وذلك لغياب وسائل الوثيقة في التصوير والرسم الذي كان محرما في تلك الحقبة من التاريخ.
إن صورة الإمام الحسين وأخيه العباس مثلما صورة الإمام علي عليهم السلام وكما هو سائد في الملصقات والصور المتداولة ليست بملامح عراقية في جانب ولا هيأتهم تنم عن واقعهم وإنتمائهم الإجتماعي في جانب آخر.
بداية لابد من معرفة بساطة الإمام علي عليه السلام وزهده في الحياة وطبيعة ملابسه quot; يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما خشن... وأشهد إني رأيته يوما وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه، رأيته وهو يتململ تململ الضعيف ويبكي بكاء الحزين ويقول يا دنيا إليك عني. غري غيري.. quot; هذا يعني ومن خلال زهده في الحياة فإنه لا يرتدي اللباس الغالي والباذخ بل كان يرتدي البسيط منه والشعبي والمتداول ولكن بأناقة المرهف الحس التلقائي في إختيار النوع واللون quot;يعجبه من اللباس ما قصرquot;.
ومثلما خلق وخلق الإمام علي عليه السلام فإن ولده الحسين سائر في نفس الطريق.
إن طي اليشماغ الذي رسم فوق رأسيهما الطاهرين في الصور المتداولة لا يمثل غطاء الرأس في حقيقته. بالتأكيد كانا أنيقين في لباسهما نظيفين فيها، لكن غطاء الرأس كان يتميز بالبساطة والذوق لأنهما حريصان في تصرفهما وبالضرورة حريصان في ملبسهما. وهذه الملابس كانت خفيفة وليست ثقيلة بضمنها العمامة لكثرة الأيام الحارة طوال أيام السنة كما أنهما في حركة دائبة وفي ركوب الخيل فلا يمكن إرتداء الملابس الثقيلة التي تعيق الحركة في المشي وفي ركوب الخيل. وبالتأكيد فإن طبيعة العباءة تتغير في الفترات الباردة ولكن العباءة الخفيفة هي السائدة وليست الثقيلة. غطاء الرأس الذي يمكن أن يكون الأسود أو الأخضر الغامق هما اللونان المتوقعان لغطاء الرأس ولم يكن الغطاء ملفوفا على شكل العمامة السائدة اليوم بل كانت تشد على الرأس ويتدلى طرفها لكي يستعمل في التحجب عندما تهب الرياح الحارة أو يهب غبار التصحر.
كان الإمام علي والإمام الحسين عليهما السلام ولأكثر من سبب يضعان القناع على وجهيهما بسبب طبيعة الرياح الحارة في منطقة الجزيرة العربية وبشكل خاص الإمام الحسين الذي كان يضع الخبز فجرا أمام بيوت الفقراء فكان يتحجب حتى لا تعرف شخصيته في عمل الخير. وفي معركة يوم الطف كان الحسين وأنصاره يتحجبون وهم في مواجهة الأعداء فذلك يحول دون جفاف الفم في أيام المعركة القائظة وبعدم توفر الماء الذي حال الأعداء دون وصول أنصار الحسين إلى نهر العلقمي للتزود بالماء، فكانوا يتحجبون تلافيا لجفاف الفم. وعندما أحتز رأسه الطاهر صرخ القاتل في حالة من الجنون quot;لقد قتلت الملك المحجبا.. قتلت خير الناس أما وأباquot; ويقصد بالملك الملاك حيث تلفظ بفتح اللام وليس بكسرها.
أما الوان هذه الملابس فإنها إنعكاس لطبيعة الطقس حيث الألوان البيضاء التي تعكس الضوء والرمادية الفاتحة هي السائدة وهذه الألوان لا تزال سائدة في منطقة الجزيرة والخليج لأنها تعكس الضوء والحرارة. وألوانها ليست بعيدة عن لون المعايش والمألوف من خضرة النخيل ولون مواد البناء والطين. ومع أن الأقمشة كانت تأتي من الحبشة ومن الهند عن طريق عمان ومنطقة الخليج وكانت زاهية ومتعددة الألوان إلا أن تلك الألوان البراقة كانت تستخدمها النساء لأنهن لايظهرن كثيرا في الساحات ويمكثن في أغلب الأوقات في المنازل فلا تحكمهن الألوان التي تعكس الحرارة.
طبيعة الطقس تضفي على وجوه الناس السمرة فإن وجه الإمام علي والإمام الحسين وأخيه العباس تميل إلى اللون الحنطي القريب من السمرة ولا تميل إلى اللون الأبيض كما جاء في شكل الرسوم المتداولة. أما طبيعة العيون وشكلها فإن الأفق المفتوح وغير المغلق والبناء الأفقي البسيط لدور السكن والذي لا يحجب الرؤية أمام البصر في بدء النهضة الإسلامية وفي صدر الإسلام فإنه يجعل النظر حادا وسليما ولذلك فإن الميل إلى عيون سوداء جميلة وأهداف طويلة هي السمة المتوقعة لهيبتهم عليهم السلام. وكان أهل الجزيرة يضعون الإثمد quot;الكحلquot; حول أجفانهم ولكن ليس بالطريقة التي تتزين بهما النساء، أي أن هناك لمسات من لون أسود حول العينين، يضعون الكحل لأسباب صحية وجمالية فتبدو العينين وكأن بهما سعة تضاف إلى شدة السواد في شدة البياض المتميز في عموم عيون أهل الجزيرة وما يطلق عليه quot;الحورquot; ndash; إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا -
وجوه أهل الجزيرة ووجوه العراقيين بشكل عام في أغلبها تميل إلى إلإستطلالة وليس للشكل الدائري فهما في شكل الوجهين تميلان للإستطالة أي أن وجه الإمام الحسين يقترب من وجه السيد المسيح عليه السلام في تكوينه المائل للإستطالة. وهذا ما جلب إنتباه الراهب الذي كان يسكن في دير توقف عنده الجند الذين يحملون رأس الإمام الحسين الطاهر على الرمح وهم في الطريق إلى الشام. فإنتبه الراهب لرأس الحسين الذي لاشك وجد فيه صورة السيد المسيح فطلب إستئجاره ودفع ما بجيبه من الدنانير الذهبية وإستأجر الرأس لليلة واحدة وقد ظنه الجنود مجنونا. فأخذ الرأس للدير وغسله وقيل بماء الورد ووضعه على قطعة قماش بيضاء وأضاء حوله مصباح الزيت وبدأ يسائله طوال الليل ويستمع لإجابات كان يعتقد أنه يسمعها وكان الجند يتطلعون نحوه من ثقب الباب معتقدين بجنونه. هذه الملامح في وجه الإمام الحسين ذكرت الراهب بشكل السيد المسيح ما يعني إن الميل إلى إستطالة الوجه هي الأصح من الشكل الذي يقرب من الوجه الدائري كما أن الأنف دقيق وليس مفروشا وهذه هي السمة الغالبة على فسلجة وجوه أهل الجزيرة وأهل العراق. وكان رأس الإمام الحسين الطاهر على الرمح قد كشف عن شعره. كان أهل الجزيرة يظفرون شعرهم وبعضهم يتركه طليقا فسمة شعر الرأس كانت كثة. لم يصل ولم يكتب عن شكل شعر الإمام الحسين ولكنه أغلب الظن كان كثا أو مظفورا. يتم الحديث عن وجود تخطيط في أحد المتاحف يقال بأن الراهب وصفه لرسام وفيه شعر الحسين كثا ومظفوراً quot;لا توجد حتى الآن وثيقة تؤكد وجود هذه الصورة التخطيطيةquot;
كان الناس يطلقون لحاهم وكذا الإمام علي والإمام الحسين وأخيه العباس عليهم السلام، ولكنها لا تترك طويلة بل تزين وجهوههم الطاهرة وبشعيرات بيضاء في مرحلة عمر الخلافة وعمر المواجهة في معركة الطف.
كان الحسين صحيح الجسم رشيقه، فطبيعة الطعام التي كانت في أغلبها وفي زهدها من التمر والحليب وخبز الشعير تضفي قوة ورشاقة على شخصه فيما جميع الصورة والملصقات تظهره في البدانة. أخاله شخصيا معتدل الطول ليس بالقصير ولا هو بالطويل وما يعزز هذا التصور دخوله لقصر الوليد بن عتبة حيث لم تشر مواصفات دخوله القصر بعد وفاة معاوية في الشام إلى أنه أحنى رأسه أثناء الدخول من باب قصر والي المدينة، وكان طول الأبواب في القصور الإسلامية أطول بقليل من قامة الإنسان المتوسط الطول كما هو موصوف في دراسات العمارة الإسلامية.
بمثل هذه التوقعات الوصفية ستضاف حالة متميزة لوجوه أهل البيت وقاماتهم. فهم ولكونهم من أهل بيت الرسول (ص) وبتلك النظافة والنقاء لا شك يضفي على سمتهم جمالا سماويا في الهيأة والمشي والحديث والإلتفاتة وذلك ينبغي النظر إليه بوعي شديد في رسم صورة الإمام الحسين وصورة الإمام علي وشخص العباس عليهم السلام جميعا.
من هذه المنطلقات يمكننا أن ندعو رسامي العراق وهم من أفضل فناني التشكيل في المنطقة وأعمالهم تضاهي كبار رسامي العالم إلى وضع تصور لهيئة الإمام علي وهيئة الإمام الحسين وأخيه العباس وأيضا وبذات الأهمية صورة السيدة زينب. وأن يصار إلى رسم ملحمة الطف وفق أسس فنية تشكيلية ذات مستوى فني رفيع كي نرتقي بمستوى التلقي وننقل صورة جماليات أهل البيت إلى الشخصيات المسلمة لتحل محل صور بدائية فطرية غير مدروسة بدأت تشكل ثقافة غير سليمة. والرأي هنا لا علاقة له بالثقافة المستوردة بقدر ما يتعلق الأمر بالسمة الموضوعية لشكل الإمام علي والإمام الحسين وأخته العقيلة زينب وأخوهما غير الشقيق العباس عليهم السلام.
وسوف يتبادر السؤال بشكل طبيعي لشخص العقيلة زينب عليها السلام وفيما إذا كان يجب أظهار بعض ملامحها في الصورة المرسومة أو في الأعمال الدرامية بما يتناسب وشخصها المقدس وهل يجوز ذلك واقعيا وفنيا وشرعيا أم لا يجوز. ونحن أمام قراءة تاريخية.
ثمة سؤال يفرض نفسه من الواقع التاريخي. هل شوهد وجه العقيلة زينب طوال الرحلة من المدينة ومكة وصولا إلى منطقة القادسية بين النواويس وكربلاء، الموقع الذي حدثت فيه معركة الطف الملحمية؟
تحدثنا الوقائع المروية التي دونت بعد عشرات من السنين التي تلت واقعة الطف عبر الرواية والذاكرة بأن السيدة زينب قد شوهدت ملامحها. كما أن الدراما تفرض وجود التعبير في الوجه والعينين لأهميته وهو غير مخالف لا للدراما ولا للواقع. سأذكر هنا حقيقية وثائقية أنا وحدي مسؤول عنها لأنها جمعتني وسماحة الإمام الراحل محمد مهدي شمس الدين رحمه الله عندما كنا متوجهين لإنتاج فيلم الإمام الحسين ولم يكن معي الآن شاهد ولا وثيقة غير وثيقة الضمير بعد رحيل الإمام شمس الدين عن هذه الدنيا رحمه الله وأسكنه فسيج جنانه. قال لي نصا quot;أظهر ملامح العقيلة زينب عليها السلام بما يتلائم وقدسيتها دون أن تظهر الشعر، وأنا أعدك بإصدار فتوى بذلكquot; جاء هذا الحديث بعد أن تحدثت معه مطولا عن بعض المشاهد التي لا يجوز أن نظهر فيها العقيلة زينب مجرد تكوين بالأسود وببرقع الوجه الأبيض. كان الحديث يدور عن المشاهد واللحظات التي قدمت فيها العقيلة زينب الفرس الأبيض إلى الإمام الحسين وقبلته في نحره. وقالت له quot;عندما كنا صغاراً قالت لي أمي إذا ما شاهدت الحسين وحيداً في كربلاء قبليه في نحرهquot; أعطته الفرس وغادر هو وغادرت هي نحو مرتفع صغير فيه بعض الأحراش وقالت وهي تصيح في الأفق quot;أماه. لقد نفذت وصيتكquot; كنا نتحدث شمس الدين وأنا عن قوة هذه المشاهد وقوة المشاعر فيها. وسألته كيف يمكنني أظهار قوة التعبير سيما في العينين من خلال تكوين ملفوف بالأسود والبرقع الأبيض. حينها قال لي quot;أظهر ملامح العقيلة زينب عليها السلام بما يتلائم وقدسيتها دون أن تظهر الشعر وأنا أعدك بإصدار فتوى بذلكquot;.
إن طبيعة المعركة والهياج بين أهل الحسين بعد أن قتل كافة الأنصار سوى علي زين العابدين، والهجوم على الخيام وحرقها والجثث المسجاة على الأرض والنسوة هلعات وزينب تحاول متماسكة الهيمنة على الموقف والحفاظ على من تبقى منهم وهي تركض نحو جثمان أخيها الحسين مقطوع الرأس، هل يمكن أن يحصل كل ذلك وهي لا تزال ببرقع الوجه تركض بين الخيام والنخيل وهياج الخيول وجند الأعداء. واقعيا quot;لا يمكنquot; وفنياً quot;لا يجوزquot;!
إن طبيعة المعركة وبهذه القسوة هي التي جعلت من وجه العقيلة زينب مرئيا بالضرورة، فهي لم تكشف عن وجهها برغبة تجاوز الواقع والإنتماء الديني ولكن طبيعة المعركة هي التي جعلت وجهها مرئيا حتى روي عن أحد جند الأعداء قوله، لقد شاهدتها وهي هلعة تركض نحو جثمان أخيها الحسين المسجى، شاهدتها والقرط يتلآلأ بين الأذن والعانق!
وقال آخر وقد شاهدها تركض وخلفها الخيام المحترقة متوجهة نحو جثمان الحسين المسجى على التراب مقطوع الرأس أمام جند الأعداء لتقف عنده وتتطلع إلى السماء وهي تقول quot;اللهم تقبل منا هذا القربانquot; سأل أحد الجند صاحبه quot;من هذه المرأة التي جاءت كالشمسquot;! فأجابه بالقول quot;زينبquot;.
لقد كانت رواية ومقتل الإمام الحسين عليه السلام تروى من على المنابر الحسينية، وكان يحضر المجالس الحسينية في العراق بضعة عشرات أو بضعة مئات وحتى بضعة آلاف، وكانت الحكايات تروى قراءة ووصفاً. نحن اليوم أمام عالم فضائي يغزو سماء وأرض العالم. وتعرض القنوات الفضائية الشيعية مشاهد عن الحسين عليه السلام وملحمة الطف الخالدة في التاريخ الإنساني فلا يجوز العبث في التاريخ لتحويله من قيمة فكرية وإنسانية إلى شكل خرافي صراحة لا يدعو إلى الإعجاب، وعلى المرجعية الدينية ورجال الدين الدعوة إلى رفض هذه الصيغ إحتراما للحسين ومسيرته وأهدافه، وكان لنا في سماحة الأمامين الراحلين محمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله مثلا أنيقاً في قراءة التاريخ وقراءة ملحمة الطف.
أن نأخذ من التاريخ الحقيقة الموضوعية وأن نسقطها على الواقع المعاصر ليس بما ينسجم وتطور العصر بل بما يتفاعل جدلا وتلك الحقيقة عبر وسائل العصر الحديثة في التعبير. وأن نفسر ما جاء في التاريخ بدقة وبنبل أيضاً، وأن نفهم فقط على سبيل المثال ماذا يعني القول quot;من هذه المرأة التي جاءت كالشمسquot;
ترى هل كانت زينب تركض هلعة بالعباءة السوداء والبرقع الأبيض فتوصف بمثل هذا الوصف؟!
quot;من هذه المرأة التي جاءت كالشمس؟!quot;
أجابه الجندي الآخر:
إنها زينب.
ترى كيف تكتب الدراما وكيف ترسم الصورة وكيف يرسم المشهد ما بين الحقيقة التاريخية الموضوعية والوجدان الشعبي. أنها مسؤولية المثقف الحقيقي في هذا الزمن الملتبس!
سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا
[email protected]
التعليقات