لا يمكن لثورة حقيقية أن تنهض، فقط تقليداً لثورة أخرى، أو مجاراة للموضة، أو استجابة لما يسمى بالربيع العربي، أو الربيع الإسلامي. لابد لكل ثورة حقيقية من شروط موضوعية، وذاتية لقيامها، وما المؤثرات الخارجية، إلا محفزات، أو مناسبات لها!
فهل تتوفر في العراق اليوم شروط لثورة وطنية؟ يقول القانون المبسط للثورة، أن الثورة تقوم حين لا تستطيع الطبقة الحاكمة أن تستمر في الحكم وفق طرائقها القديمة، وحين لم يعد يستطيع المحكومون العيش وفق الطرائق القديمة السائدة، والمفروضة عليهم. أو حين تضيق القوى المنتجة الحية والكادحة، بعلاقات الانتاج الجائرة. في العراق اليوم بلغ الوضع من السوء والتدهور حداً مريعاً، ولم يعد الغطاء الديمقراطي الزائف والمهلهل، يكفي لتبريره وتغطية عيوبه وسوءاته وبشاعته، فقد بلغ حداً لم يكن يخطر على بال من وصفوا قوانين الثورات، بدءً من ماركس ولينين وجيفارا، حتى البقال التونسي الطيب الذي أحرق نفسه؛ ليصنع بنار جسده قانونا جديداً للثورات!
ولكن هل تتوفر الشروط الذاتية لهذه الثورة؟ أي القيادات الذكية الناضجة، والأحزاب والجماعات المنظمة، والقواعد الجماهيرية الواسعة الصلبة التي تغذيها بعزيمتها وفعلها الثوري السلمي أو المسلح؟ بالطبع لا، فمعظم القوى المعارضة، حتى التي كانت سابقاً مسلحة، قد انخرطت في العملية السياسية على أمل أنجاز التحول الاقتصادي الاجتماعي بالعمل السياسي الصبور والبناء، أو لأهداف ومصالح خاصة، ولكن ما اتجه نظام الحكم إليه ومنذ سنوات؛ هو افراغ العملية الديمقراطية من محتواها الإنساني المعروف، والمضي بها بسبق اصرار نحو الدكتاتورية، وتعزيز حكم الطائفة الواحدة، بل وتركيز السلطة في يد حفنة من الطائفة، بمظلات داخلية، وخارجية واضحة للجميع!
تحت هذا الظرف الذي يمكن تسميته بالناقص، أو المبتور والمشوه، قامت هبة جماهيرية في الانبار، والمناطق السنية؛ يمكن تسميتها بالانتفاضة! فهي قد انطلقت نتيجة لما تراكم على كواهل الناس هناك من صنوف الضيم والإذلال والتهميش، والتغييب والنبذ، مرتكزة على أحقاد قديمة وحديثة، عبر حملات عسكرية وأمنية ترتكب خلالها انتهاكات فظيعة، وعمليات عقاب جماعي؛ بحجة أنهم مأوى للبعثيين، وبؤر للقاعدة! لذا فهي انتفاضة مشروعة، لم يسع السلطة ورأسها؛ إلا العودة للاعتراف ببعض مطالبها، بعد تسفيهها وازدرائها!
ولكن هل يمكن لهذه الانتفاضة أن تتحول إلى ثورة وطنية ؟ لابد من الوقوف أمام الحقائق التالية:
الأولى: لا يمكن لها أن تتحول إلى ثورة وطنية، ما لم تنطلق للمشاركة فيها؛ جماهير موازية من الشيعية في بغداد والجنوب!
(لا مفر من عدم احتساب المنطقة الكردية، لكون سايكولوجية القيادات الكردية اليوم تخلو تماماً من اي بعد عراقي، وهي لا تدور سوى حول نفسها، ومكاسبها الخاصة! وهي لا تستعمل البعد العراقي أو الوطني إلا كحبل للعب عليه، وحلب المال، باستثناء الكرد الفيلية، المعروفين بوطنيتهم، والإسلاميين المعتدلين من الكرد).
الثانية : لا يمكن لها أن تتحول إلى ثورة ديمقراطية، إذا ظلت مقتصرة في مطالبها على اسقاط المالكي، أو نظامه!
الثالثة: لا يمكن لها أن تحمل شحنة كافية للتغيير والثبات والتطور: إذا ظلت في قوامها الجماهيري والقيادي مقتصرة على تحالف شيوخ العشائر ورجال الدين! ولم تستوعب جميع الطبقات وشرائح الجماهير الفقيرة والمستلبة حقوقها، وما لم ينتقل المشاركون في العملية السياسية، إلى صف العمل الثوري؛ بمعنى المعارضة النوعية الداعية إلى أحداث تغيير جذري في الواقع الماثل، وليس مجرد اصلاحات وترقيعات موضعية، وترضيات خاصة.
اذا وقفنا وباختصار شديد أمام الحقيقة الأولى نجد أن جماهيراً من الشيعة، خاصة الصدريين منهم قد تعاطفوا في البدء مع انتفاضة أهل الأنبار والموصل والمدن الأخرى، رغم بعض الشعارات والرموز والعبارات النابية والسيئة جداً التي رفعها بعض المتظاهرين. لكن هذه الهبة أو التضامن والمشاركة لم تلبث أن خمدت، وتحولت إلى مناشدات عاطفية عابرة، والسبب واضح في ذلك، فالقيادة الصدرية معروفة بالمزاجية المتقلبة، والمتذبذبة و وقوفها مع المنتفضين كان نكاية بالمالكي، وليس لدافع وطني، وهي في نهاية المطاف لا يسعها سوى الخضوع لقرارات واتجاهات الائتلاف الشيعي الذي مهما سمح ببعض المواقف الخاصة في داخله، والتنازلات التي قد تصل عند الضرورة القصوى حد استبدال المالكي، فهو لا يسمح مطلقاً لحكم الطائفة أن يسقط من يده، كما أن إيران راعية التحالف الشيعي وحاضنته، لا تسمح بأية بادرة استجابة وطنية أو عراقية منه تضعف حكم الطائفة، الذي لم يعد يتحمل المزيد من الخطر، مع ترنح حكم العلويين في سوريا!
لذلك فستبقى هذه الانتفاضة محصورة وحيدة، وهذا يجعل من السهل لخصمها ان يصفها بالطائفية، والإرهاب. ومن ثم سحقها أو جرها للاحتراب الطائفي، أو الحرب الأهلية. أن جماهير الشيعة أنفسهم قادرون على درء خطر وشرور تحول هذا الانفجار الإنساني المشروع إلى حرب أهلية، عبر ادراك أن مطاليب المنتفضين السنة؛ هي في جوهرها مطالبهم أيضاً، وعليهم تطويرها وتحويلها إلى ثورة وطنية، فهم أيضاً ليس من مصلحتهم صعود الدكتاتورية، وبقاء الدستور القاصر الحالي، واستمرار حكم يقوم على الفساد والظلم والتهاون والاستهتار، وعدم الشعور بالمسؤولية إزاء حاجات الناس الضرورية! بذلك تنهض ثورة الجياع والمظلومين،المرتبطين بوشيجة المصلحة الواحدة، في التغيير ونشدان عراق جديد!
وإذا تناولنا الحقيقة الثانية نجد أن هذه الانتفاضة قد اقتصرت على الهتافات والشعارات التي بعضها انفعالي، انشائي، صاخب، ولم تطرح مشروعاً مكتوباً واضحاً يتناول الواقع العراقي التعيس بكل تفاصيله وجوانبه، راسماً الحلول والمعالجات الجذرية للخروج منه.،يقضي بإنهاء العملية السياسية الجارية، وبدء عملية سياسية جديدة، تبدأ بتغير الدستور القائم، وسن دستور حديث يلبي متطلبات العراقيين جميعاً على قدم المساواة، ويتوافق مع روح العصر، ومناشدة الأمم المتحدة للإشراف على انتخابات جديدة، والسعي لإصدار قرار يقضي بإدانة الولايات المتحدة الأمريكية، والزامها بدفع التعويضات المادية والمعنوية لأنها أخلت بقرار مجلس الأمن بعدم ايفائها بتعهداتها بصفتها دولة احتلال؛ في اقامة نظام حكم ديمقراطي صحيح، وقامت بتسليم الحكم فيه لفئات طائفية متعصبة ساسته على أساس النزعة الانتقامية، وعقد التاريخ، والخضوع لإيران التي كانت في حرب معه لثماني سنوات!
الحقيقة الثالثة: تتمثل في أن القيادات التي تتصدر الانتفاضة مكونة في معظمها من شيوخ العشائر ورجال الدين، وهؤلاء مع عدم الشك بوطنيتهم واخلاصهم ولكنهم بطبيعتهم العامة يظلون في افق فكري محدود للتغيير، والمضي أشوطاً أبعد في التقدم والتجديد، واستيعاب مفاهيم الديمقراطية، والحرية وحقوق الإنسان. لذلك لوحظ غياب المثقفين المستقلين خاصة العناصر الشابة، وغياب المرأة بشكل يكاد يكون مطلقاً، كما إن تجميع المنتفضين على الطريق الدولي وقطعه لا ينم عن بعد نظر، فهو يحمل دلالات خطيرة سيئة، إذ يعني امساكهم بمتنفس هوائي كبير للعراقيين جميعهم،ومن غير المقبول التلويح بالخنق؛ عبر الهواء أو الماء، على العكس يجب ارسال إشارات سلام ومحبة وتضامن لجميع العراقيين، كلما أمكن ذلك.، والحرص وإلى أقصى حد ممكن على أن يتم ذلك بالطرق السلمية.
كما ينبغي لها أن تتحشى اتخاذ الثورة السورية نموذجاً لها، أو الهاماً يلهب مشاعرها، ليس فقط لأنها لم تنتصر بعد، بل لأن العمل المسلح والدموي ليس هو الطريق الأمثل للثورات. إنها لم تختر توقيتها المناسب فهو قد جاء مصادفة أو فرضه عليها خصمها باعتقال حماية العيساوي، ولا ينبغي أن تستمر على جدول المصادفة والعفوية والارتجال، بل لا بد لها من تدبر طريق التأمل والعقلانية والحكمة.
هذه الانتفاضة، على مفترق طرق واحتمالات : فهي فرصة تاريخية أمام جميع العراقيين سنة وشيعة، لا ينبغي أن تختصر بصلاة مشتركة، أو ولائم خرفان مشتركة، بل تتحول إلى ثورة سلمية وطنية عميقة تصهر أطيافهم واتجاهاتهم المذهبية في بوتقتها، تحرق كل أدران الماضي، وتؤسس لمستقبل جديد،وسيكون انتصارها انتصارًا لهم جميعاً، ونهاية للطائفية!
أو أن تهمل وتحاصر في زاويتها الضيقة وتستفز كثيراً، فتتحول إلى بداية جديدة دموية للطائفية، لا تبقى ولا تذر.
أو أن تؤد في مهدها فتتحول إلى غدة سامة، وخزين أحقاد وثارت، واستحقاق لا بد أن ينفجر في المستقبل، وبصورة يصعب التكهن بشكلها ومحتواها.
- آخر تحديث :
التعليقات