كانت عسكرة الثورة السوريّة مسألة وقت، فلم تكن المشكلة مشكلة تكتيكات أو استراتيجيّات صحيحة تتبنّاها الثورة للحفاظ على سلميّتها، بقدر ما هي ممكنات واحتمالات لا يهيّئوها نظام سياسي خارج عن أطر المجتمع وفي حالة حرب مفتوحة معه؛ باردة تارة ومباشرة ومفتوحة تارة أخرى، كما كان الحال في الثمانينات وفي مجريات الثورة السورية الحالية.

تراجع تدريجياً العمل المدني (من مظاهرات وإضرابات) ليتحول إلى حالة رمزية تنصب على تركيب خطاب إعلامي موجّه إلى المجتمع الدولي والعربي، وتقدَّم العمل العسكري إلى الصدارة، أما العمل السياسي فانصبّ على تقديم برنامج مرحلة انتقالية تطمئن الدول الغربية وتقنعها بتقديم دعم حقيقي فعال للثورة سياسياً وعسكرياً، وإزاء الفشل المتكرر في تشكيل جسم سياسي يمثل السوريين بالحد الأدنى، زادت مصداقية العسكرة وتراجعت السياسة أكثر فأكثر.

ينصبّ النقاش منذ أشهرٍ عدّة على كيفية ضبط الجسم العسكري للثورة بعد أن تضخّم وتشعّب، وآليّة جمعه في بنية قياديّة تسلسليّة هرميّة، تضمن الانضباط العسكري، وتمكّن من ضبط الأمن في المرحلة الانتقالية.
عسكريّاً يمكن القول أنّ الصراع بين جيش النظام من جهة والجيش الحر والكتائب المقاتلة من جهة أخرى دخل مرحلة الاستعصاء بسبب افتقار الأخيرة إلى أسلحة ثقيلة قادرة على مجابهة آلة النظام العسكرية والحسم. ويجد تردّد الدول الغربيّة في التسليح مبررّه في تشتت الكتائب المسلحة وافتقارها إلى أية هيكليّة تنظيميّة هرميّة، وقيادة مشتركة على غرار الجيوش النظامية، ويغذي بروز تنظيمات إسلامية متشددة في المشهد السوري من فوبيا وهواجس الغرب في أفغنة سورية، أو حتى بلقنتها انطلاقاً من لوحة فسيفسائيّة لها جذرها التاريخي، تتّسم بتذرّر اجتماعي غذّاه النظام عبر عقود طويلة من حكمه.

يدور الحديث عن أكثر من مشروع لتوحيد الكتائب في ظل قيادة مشتركة، وربطها بمجالس محليّة أو بجسم سياسي يتولّى مهمة توزيع السلاح بما يضمن ضبط عمل الكتائب. يبدو المشروع على الورق متميزاَ، ولكنه على الأرض يكاد يتبخّر، وتتقاذف جهات مختلفة الاتهامات بخصوص المسؤولية عن هذا التشتت.

استشعر بعض قادة الكتائب سطوة السلاح، وامتطت نسبة غير قليلة من الخارجين عن القانون صهوة الثورة والعمل العسكري. وتولّدت لدى هؤلاء حالة من الاستعلاء على العمل المدني والسياسي. ومنذ الآن نجد بعض قادة الكتائب يتعاملون بعقليّة جنرالات الحرب من خلال تقاسم مناطق النفوذ، والاحتكام أحياناً حتى إلى السلاح ضد رفاقهم من كتائب أخرى.

ويهيئ تعدّد مصادر التسليح والمموّلين وبطبيعة الحال اختلاف أجندات الممولين القاعدة الأمثل لاحتمالات الفوضى، وتشير اتهامات من مصادر مختلفة إلى دور سلبي يلعبه الإخوان بغطاء قطري وتركي، من خلال التركيز في الدعم على كتائب دون أخرى وتخزين السلاح لاستخدامه لاحقاً في التأثير على مآلات المشهد السياسي السوري. ويُسجَّل على الأرض هبوط في الرصيد الشعبي لكتائب الجيش الحر بسبب التجاوزات المتكرّرة لعناصره، ووقوع حالات نهب غير قليلة للممتلكات العامة والخاصة وصراع على توزيع الغنائم والذخيرة، حتى كُلِفت مؤخراً جبهة النصرة بعمليات توزيع الطحين في مدينة حلب بسبب الأمانة الأخلاقية لأعضائها.

يضاف إلى ما سبق تحييد أكثر من 2000 عسكريّ نظاميّ من صف الضبّاط المنشقين خوفاً من المنافسة على قيادة الكتائب، وللأسف تتنامى قناعة انتقامية مرعبة لدى شريحة من الناشطين السياسيّين السوريّين والعامة تقول بأن الضباط المنشقّين فاسدون، لا يستحقون اتخاذ مواقع قياديّة عليا. وكأن الفكرة فكرة مكافآت تمنحها الثورة يتجلى ذلك في تمجيد المنشقّين الأوائل بغض النظر عن كفاءتهم العسكريّة ومنحهم مناصب قيادية دون فاعليّة ميدانيّة ليقتصر دورهم على صنع فقاعات إعلاميّة. هذا المنطق المثالي يسود في وقتٍ تعاني فيه الثورة بكل تفاصيلها من ثقافة الفساد، وتقاسم المناصب، وإعادة إنتاج نفس العلاقات العصبوية التي تغذى منها النظام (العائلة وسواها من عصبيات بديلة). يبقى الضباط المنشقين الأكثر تأهيلاً لقيادة مرحلة انتقالية لأسباب عديدة منها:
-الانضباط العسكري والكفاءة العسكرية الذي لا يتحلّى بها المدنيّون.

-ضعف الحسّ الطائفي لدى هؤلاء، هذا الحسّ الذي غذاه النظام بنجاح، وحرضت عليه دول الجوار في الداخل السوري.
إن استمرار تشتّت الجسم العسكري السوري، وتراجع صوت المدنيين (صوت السوريين عملياً)، مع ارتفاع الاحتقان الطائفي إلى ذروته، تمهّد جميعها لاتفاق طائف سوري، تظهر التطورات الأخيرة أن محوري الصراع الدولي يهيّئان له على حساب تضحيات آلاف السوريين في سبيل دولة مدنية ديمقراطية.

عمار عكاش ndash; كاتب ومترجم سوري