حينما قام التونسيون بإعلان ثورتهم، و قرروا اسقاط نظام الديكتاتور بن علي، القائم على الظلم و الاستبداد، و مصادرة الحريات الفردية و الجماعية، و غياب العدالة الاجتماعية، وجدوا انفسهم الآن بعد مرور أكثر من عامين على انطلاق شرارة الثورة، يدخلون في نفق الاغتيالات السياسية، وهي سابقة خطيرة دخيلة على المجتمع التونسي، المعروف بالهدوء و السكينة، و عدم جنوحه للعنف، بمختلف انواعه و اشكاله.
ما حدث في تونس باغتيال الناشط السياسي شكري بلعيد الأمين العام لحركة الوطنيين الديمقراطيين، يعيد الى الأذهان بعد نحو عشرون عاما ذاكرة الاغتيال السياسي في الجزائر، و هي الظاهرة التي برزت بحدة عشية وقف المسار الانتخابي، بعد أول انتخابات تشريعية تعددية تشهدها الجزائر عام 1991، والتي فازت بها آنذاك الجبهة الإسلامية للإنقاذ في دورتها الأولى قبل إلغائها، مما تسبب بـ 15 عاما من العنف المسلح، بعد تدخل الجيش الجزائري، والغاءه لنتائج الاقتراع الشعبي، حفاظا على الدولة المدنية المهددة من طرف الفيس الحزب الاسلامي المتشدد.
موجة العنف في الجزائر بدأت بعد ان ثار الجزائريون فيما يسمى بــ quot;أحداث الخامس اكتوبر quot;، ضد الوضع المعيشي المتردي والبطالة المستشرية، والاقتصاد المنهار، والاقصاء والحرمان والبيروقراطية، وتحولت العاصمة بأكملها، الى بؤرة للاحتجاجات وأعمال التخريب والحرق ومحاولة اقتحام منازل عدد من الشخصيات، التي كانت ترمز لنظام الحكم في الجزائر آنذاك middot;
بعد يومين ظهر الرئيس الشاذلي بن جديد على التلفزيون، ودعا المواطنين للتعقل، ووعدهم بغد أفضل، وبإصلاحات في جميع المجالات السياسية والاقتصادية، وفهم الجزائريون أن ثمة تلميح لتغيير في نظام الحكم، وأن الجزائر مقبلة على الانفتاح، وأقر الشاذلي دستورا جديدا أقر التعددية السياسية والإعلامية في الجزائر، وفتح مجال النشاط واسعا لكل التيارات السياسية مهما كانت انتماؤها، وأقر حرية التعبير أيضا، كما فتح المجال الاقتصادي للقطاع الخاصmiddot;
وفي أول انتخابات في عهد التعددية حققت جبهة الانقاذ فوزا كاسحا في الانتخابات المحلية، و بعد ذلك في الانتخابات التشريعية في مرحلتها الأولى، هذه النتائج حسب وزير الدفاع الجزائري آنذاك الجنرال خالد نزار quot;زرعت الهلع لدى الرأي العام خاصة بعد التصريحات التهديدية فتحركت جمعيات المجتمع المدني بالتزامن مع مظاهرات جبهة القوى الاشتراكية التي ساندها الجيش الذي دعا المجتمع المدني و المجاهدين القدامي و الأحزاب الديمقراطية و المنظمات الجماهيرية الى التحرك للحيلولة دون حصول الجبهة الاسلامية للإنقاذ على الأغلبية المطلقة في البرلمان خاصة و أنها رفعت شعار الدولة الاسلامية بالصندوق أو البندقية quot;.
و يشير نزار في كتابه quot;الجزائر ايقاف تقهقر مبرمجquot; بان quot; هذا القرار لم يكن سهلا لكنه كان الحل الوحيد لإنقاذ الديمقراطية الفتية و الدولة quot;.
بعد وقف المسار الانتخابي تم فرض حالة الطوارئ، و تم حل الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي دخل متشددوها في مواجهة مع الجيش، ومن نتائج هذا العنف اغتيال الرئيس بوضياف أمام الكاميرات في جوان 1992، و هي الجريمة التي كانت اعلان لبداية لمسلسل طويل من الاغتيالات السياسية، راح ضحيتها العشرات من المثقفين و السياسيين و رجال الاعلام، وتطور الامر الى حدوث مجازر جماعية راح ضحيتها مواطنون ابرياء، في عدة مناطق متفرقة من الجزائر.
وبعيدا عن عدد اللذين حصدتهم آلة القتل الهمجية، الا ان المؤكد ان ضريبة المطالبة بالتغيير في الجزائر كانت مرتفعة جدا، وما يزال الجزائريون الى اليوم يدفعون الثمن، و لعل ذلك ما يفسر عدم انسياق الجزائريين الى دعوات تطالبهم بالاقتداء بالشعوب العربية و اعلان ثورة ضد النظام، و كأني بالجزائريين يقولون quot;نحن قمنا بالثورة منذ نحو عشرون سنة، و دفعنا ثمن ذلك خيرة ابناءنا و بناتنا، و نحن لا نملك الاستعداد لتكرار التجربة المؤلمة و القاسية quot;.
مسلسل الأحداث في الجزائر خلال التسعينيات، يضعنا في صورة مماثلة لحركة التغيير في تونس، فالتونسيون كما الجزائريون ثاروا ضد كل مظاهر التهميش و غياب العدالة و مظاهر الظلم و الاستبداد، و الفارق في الحالتين أن شعب تونس اتحد في مواجهة النظام،، لكن في الجزائر ثار الاسلاميون ضد النظام دون غيرهم، و في النهاية سقط حكم بن علي، و أصبح الاسلاميون هم من يحكم تونس، و الاستقرار لم يعم تونس بعد، و في الجزائر استمر النظام بينما اختار الإسلاميون الصعود الى الجبال و اللجوء الى العنف المسلح، من اجل استرداد ما يرونه حق اغتصب منهم.
لكن كلا الدولتين مرتا بعد حركة التغيير بمرحلة انتقالية مشابهة، هذه المرحلة تميزت بغياب مؤسسات الدولية الرسمية، و انتشار مظاهر الفوضى و العنف المسلح كلغة حوار بين السلطة و المعارضة، وغياب مؤسسات الدولة في الجزائر تطلب وقتا من الزمن في سبيل اعادة بناءاها، وهو ما تسبب في خسائر بشرية و مادية كبيرة، دفع فاتورتها كل الجزائريين اسلاميين و علمانيين ديمقراطيين ووطنيين.
وتونس الآن ما تزال في مرحلة انتقالية و تواجهها تحديات كبيرة، في طريقها الى بناء مؤسسات الدولة، ولعل الاغتيالات السياسية التي بدأت مع اغتيال شكري بلعيد أحد اكبر هذه التحديات، لذلك على التونسيين ان يتعلموا من تجربة الجزائر، و أن يدركوا جيدا أن العبرة ليست في اسقاط النظام المستبد او الثورة ضده، لكن العبرة في مدى قدرتهم على تجاوز هذه المرحلة الانتقالية بأقل الأضرار، لأن الأكيد ان اية ثورة أو عملية تغيير جذرية ستكون لها ارتدادات على المدى القريب و البعيد، هذه التحديات على اهل الحل و العقد في تونس أن يدركوها جيدا، من أجل مرور آمن نحو مرحلة الاستقرار و بناء مؤسسات الدولة التونسيةquot;.
واذا كانت عملية الانفتاح الديمقراطي في الجزائر كان ثمنها أكثر من مائة الف قتيل، فعلى تونس أن توقف العداد الذي بدأ يشتغل مع اغتيال المناضل السياسي شكري بلعيد، على التوانسة ان يدركوا جيدا ان لغة الرصاص لن يستفيد منها احد، و ان الاتهامات المتبادلة بين مختلف الأطراف ليست هي الحل، فالجزائر رغم العدد الكبير من ضحايا المأساة الوطنية، الا انها لم تجد بديلا عن التوجه الى المصالحة الوطنية، من اجل وقف نزيف الدم و التفكير في المستقبل، ودون هذه المصالحــة لما تمكنت الجزائر من استعادة الأمن و الاستقرار و التطلع الى المستقبل.
لذلك على الاسلاميين كما العلمانيين ان يبحثوا عن نقطة التقاء مشتركة، عليهم ان يتصالحوا و يتفقوا و أن يتحاوروا، و ذلك امر لا مناص منه و لابديل عنه، ونقطة التقاء الفرقاء في تونس تتمثل في حبهم لتونس و مصلحة شعب تونس، الاسلاميون مواطنون لا يمكن اقصاؤهم و العلمانيون مواطنون لا يمكن اقصاؤهم، فثورة تونس قام بها شعب تونس انتصارا لقيم الحرية و العدالة و المساواة، و نبذ التطرف وتهميش الآخر مهما تكن افكاره، لذلك على قادة تونس اليوم تحقيق هذه القيم انتصارا لشعب تونس و ثورته.
التعليقات