غالباً ما يترافقُ صعودُ القوى السياسية أو الدينية مع محاولاتٍ حثيثة لإزالة آثار الآخر ورموزه، أو لتزوير الوقائع المحيطة بهما وتشويهها، وهذا الفعلُ موغلٌ في التارخ، مستمرٌّ حتى في أكثر الأماكن تقدماً فكرياً وحضارياً، وإن كانت هناك قراءاتٌ مختلفة لدوافعه وآثاره.
انتشرتْ ظاهرة تحطيم التماثيل وحرق صور القادة منذ بداية ثورات الربيع العربيّ. لم يجادل أحدٌ في جدوى قتل ظلال الديكتاتور بينما لايزالُ هو يتمتع بالقوة والوجود الحقيقيّ على الأرض. كانت الظاهرة تثير فرحاً ودهشة لانهائيين. رأت فيها الجموعُ إعلاناً عن ميلاد عهد خالٍ من الخوف والاستبداد، وصورة عن حقد دفين ظلّ يعتمل سرّاً في نفوس المضطهدين. بينما بدا الأمرُ للموالين وقاحة وتطاولاً وخيانة.
تمثّلُ حادثة تحطيمِ إبراهيمِ أصنامَ قومه تجلّياً آخر لتعدد الرؤية والتفسير، إذ يرى معظمُ المؤمنين في العالم أنّ إبراهيمَ بتقديمه البرهانَ على عجز الآلهة المنحوتة والمعبودة، قامَ بفعلٍ ثوريّ، خضّ العقلَ البشريّ، عرّى طفولته وسذاجته ليهيّئه لفكرٍ أسمى ومرحلة أكثر تطورا. بينما لم يقرأ العلمانيون والليبراليون في الحادثة غيرَ إقصاء الآخر.
لاتنحصرُ عبادة الأصنام بتمجيد تمثالٍ منحوت من الحجر أوالذهب أوالبرونز، فقد تتجلّى في تهافت الإنسان على مصادر اللذة من ذهب ومال وسلطة ومنصب وجنس وشراب ونحوه، أو يتبنّى الفرد إيديولوجيا ما فتستعبده وتكون المحرّك والدافع لجميع تصرفاته. هكذا تتحجّر الأفكار المطلقة والثابتة وتصبح أصناماً.
وليس للصور والمجسمات الرمزية طاقة سحرية تحميها من الفناء، فمنها مايتغير بتغير الزمان والمكان، أو يسقط بفعل الاصطفاء والغربلة أو بالإحالة إلى معان مضادة. مع ذلك لاتقضي إزالتها على تأثيرها بالضرورة، فحين لايتمكّن معتنقوها من حمايتها، قد يخبؤونها في أعماقهم لئلا يطالها التخريب ويعطل رمزيتها. هنا تصبح عملية تحطيم الرموز المادية بلا جدوى، طالما أنّ الفكرة الأصل تعيش في النفوس حقيقية كانت أم وهمية وزائفة.

إنّ قطع رأس تمثال أبي العلاء المعري في مدينته اليوم عدوانٌ على الفن والإبداع فجعَ محبّي الفكر والشعر والفلسفة والحرية. ورغم إنذاره بقمعٍ فكري هائل فيما لو سيطر المتطرفون، فإنه لن ينال من تراثه الأدبي وتأثيره، خاصة أنّ تقنيات التواصل المعرفي جعلت الثقافة ميراثاً عالمياً يساهم الجميع فيه بطرائق متعددة. ولعلّ هذا القتل المعنوي يحيي الأسئلة عند جيل الثورة والحرية، فيعيدون طرحها وتعلّمها.
لايختلف الفيلم الأمريكي المسيء للرسول عن قطع رأس المعري، من جهة الدلالة لا من جهة الأثر الكميّ، فالفيلم لم يقدّم رؤية نقدية أو تحليلية لشخصية الرسول، بل اكتفى بالطعن والتشويه. وعندما تنجح مشاعر سلبية مليئة بازدراء الآخر في اختراق الديمقراطية، في أكثر الدول تقدماً وتحرراً، فهذه إشارة إلى فشلٍ في التواصل الإنساني، وعجزٍ عن تمثل الديمقراطية بمعناها المتسامح والمتبني للمتعدد.
تتشارك البشرية ببعض الرموز والطقوس الدينية نتيجة الاختلاط والتأثر والتراكم المعرفي، ويشيرُ بعض الباحثين الغربيين إلى هذا التشابه كدليل على الأصل الوثنيّ لكل الديانات، أمّا المسلمون فيعرفون وهم يطوفون حول بيت الله الحرام أن الله لايقيم فيه، ويدركون وهم يقبّلون الحجر الأسود أنه لايضرّ ولاينفع، بل يعكس اشتياقهم لِما باركه الرب. كذلك يتضايق الهندوس من اتهام العالم أجمع لهم بعبادة الأصنام، فيسهبون في الشرح أن أصنامهم مجرد رموز مادية تمكنهم من التركيز على فكرة الله الواحد.
هذه الحيادية الباردة التي ينظر بها الغرب إلى معتقدات الشرق، شكّلت تربة خصبة لنمو الرفض والإنكار والتعالي والتعصب، سرعان ماسرى نسغها في عقول بعض مثقفينا، فتماهَوا معها ليدفعوا عنهم تهمة التخلف، وأطلقوا سياطَ نقدهم بقسوة أشدّ. أمّا من طغت الاستعراضية المبهرة على طرائق تناولهم لإرثنا الثقافي، فلا استطاعوا أن يردّوا عنه مخارز الغرب، ولا حمَوه من معاول الجهلة الذين استعصى عليهم فهم معظمه فأنكروه. وإذ كانت القوانين الديمقراطية في الغرب تكبحُ الصراعات الطائفية، فإنّ المتعصبين عندنا لايتوانَون عن إظهار خوفهم وكرههم للآخر، وليس مستغرباً والحال هذه أن تظهرَ بوادرُ الصراع الإيديولوجي في ظلّ مرحلة انتقالية.
لم يوقف تدميرُ دوار اللؤلؤة احتجاجات الشعب البحريني، ولن يعتقل العقلَ العربي تحطيمُ تمثال المعرّي، ولعلّه يطرحُ مشكلة حماية الرموز الدينية والثقافية والحضارية في ظلّ فئات متطرفة أو غياب الديمقراطية، فهذه مهمة ومسؤولية جماعية لايجب أن تترك لجهة واحدة تحركها بواعث خاصة.