لقد ثبت، بما لايدع مجالاً للشك، أن سذاجة تصورات السوريين عن طبيعة النظام السياسي الذي يحكمهم، وتصوراتهم البسيطة عن طريقة إنجاز ثورتهم، شكلّت معطيات مضللة أدى البناء عليها إلى أخذ الثورة إلى سياقات أخرى غير واقعية، كان من نتيجتها تلك الغلّة من الحصاد المرّ.
كان على الثورة إستغلال كل ممكناتها، وأولها الإستفادة إلى أقصى درجة من عنصر المفاجأة، والعمل على الثورة من قلب الوحدات العسكرية، لا من الجوامع، هذان عنصران كانا كفيلان بإنجاز ثورة أقل أكلافاً وأكثر جدوى، لا أن تترك الأمور للنظام يشكلها على هواه ويبني على كل أمر مقتضاه، فيأخذها إلى التسلح في الزمان والمكان الذي يختارهما هو، مثلما سيأخذها، بعد فترة ليست بعيدة، إلى مرحلة الكانتونات والدويلات الطائفية، وهكذا تصبح الثورة أفضل مَن ينفذ خيارات النظام ويترجم خططه وإستراتجياته.
ضيّعت الثورة السورية وقتاً غالياً وهي تحلم بالوصول لساحات الأمويين والعباسيين، ولم ينتبهوا أن ساحاتهم الحقيقية هي معسكرات الجيش التي كانت تزنّر أحياؤهم وطرقاتهم، وضيّعت وقتاً ثميناً أيضاً وهي تقطف الورود تهديها لعسكر النظام، الذين لم يتهيبوا قتل حملة الورود، غياث مطر ورفاقه، وتتابع ألتهم العسكرية دوس كل مافيه روح وحياة، من بشر ونبات وحيوان، وحتى الحجر، في حين كان الأولى بالثورة أن توزع على أبناءها بنادق بدل الورود؟.
تلك كانت أكبر أخطاء الثورة التي تسببت برجم الشعب السوري بكل تلك الويلات، وقد يقول البعض أن ذلك لم يحصل وعاشت سورية كل هذه الويلات فكيف لو تسلّحت الثورة منذ البداية؟، الجواب على ذلك أن هذا النظام مثله مثل أية قوى في الكون يحتاج سقوطه وزوال مفاعيله وتأثيراته إلى قوة تكافئه وتتفوق عليه، وحينها ستكون تداعيات سقوطه أقل أثراً ومن الممكن معالجتها بزمن ليس طويل، إن على مستوى الخراب في الإعمار، حيث لن يتسنى له إحداث هذه المراكمة من الخراب المستمر، او الدمار في النسيج الوطني، حيث تُرك يعبث على هواه في النفوس والعقول، كان من الممكن الوصول إلى صيغ منطقية تلقى حداً أدنى من التوافق عليها لعبور مرحلة ما بعد النظام.
أما وقد تُركت الأمور على غاربها، فإنه بات على قوى الثورة اليوم العمل على معالجة تداعيات الحدث وإعادة صوغ الأهداف بما يتفق والوقائع والمعطيات المستجدة وكذا مواجهة خطط وإستراتيجيات النظام حتى لا يستمر بأخذ الثورة إلى حيث يريد هو، وذلك يتطلب ما يلي:
-الإستمرار بالثورة المسلحة وتزخيم وتيرتها، بإعتبارها خياراً ووسيلة ثورية مشروعة في وجه نظام فقد شرعيته، وإعتباره المسؤول الوحيد والحصري عن كل ما حصل في سورية، وهذا يتطلب عدم المساومة على رحيل النظام بكامله والإصرار على محاكمة كل أركانه، فالقضية ليست حرباً أهلية، حتى لو إعتبرها طرفاً ما كذلك، ومن شأن فتح باب المساومة، في ظل واقع دولي منحرف، تحويل المسألة برمتها إلى شكل من أشكال التمرد!.
-عدم تنازل القوى المحركة للثورة، المدنية والديمقراطية والعلمانية، عن دورها، بوصفها القائد الفعلي والمحرك الأساسي للثورة، حتى وإن تعسكرت الثورة اليوم وكانت كلمة الميدان هي الفصل، وحتى ولو نجحت القوى المحلية التي تشكلت على هامش الحدث، في إدارة وتسيير بعض الشؤون، فإن ذلك لايلغي دور قوى الثورة الأساسية، لأنها ببساطة هي الضامن الوحيد لبقاء الوطن السوري موحداً.
-الإصرار، ورغم الجرح الفاغر فاه، على تغيير المنظومة القيمية والبنى التي أنتجتها، ذلك أن البنى التقليدية خير ضامن لإعادة إنتاج الإستبداد.
على أبواب العام الثالث، وأمام هذه الحصيلة الوافرة من الدماء والدمار، لايزال ثمة أمل يرتسم في أفق سورية، إذ الثورات ليست مثل التعهدات يتوجب إنجازها بتواريخ وأزمنة معينة، الأمل في ان تطور الثورة أدواتها وفاعيلها، وأن يتولى الإشراف على فعالياتها محترفين في العسكرة والسياسة، يجيدون إستثمار الوقت والمجهودات، وإلا سيستمر الهدر في البشر والحجر بدون معنى.