تنزع كل الحيثيات في المشرق بإتجاه التضاد والتصادم، ثمة روح عدائية باتت تحكم علاقات مختلف المكونات في هذه المنطقة، النار السورية، وقبلها شقيقتها العراقية، كشفت عن الجرح الغائر في صدر هذا المشرق، سورية والعراق ولبنان على فوهة البركان، وشعوبهما تتزنر بالخطر والموت وتحث السير، خلف نجومها الطائفيين، في حرب قهر الأخر وإذلاله.
ليست تسرعاً ولا إستسهالاً، الدعوة لتفكيك هذا المشرق البغيض والحاقد على أبنائه وغير ضنين بدمائهم وعذاباتهم، أو فليصار إلى الإعلان عن تشكيل جبهة من مكونات هذا المشرق تكون مستعدة للدفاع عن إستمرار العيش المشترك في دوله الوطنية وتكون قادرة أيضاً على تحمل إستحقاقات مثل هذا الأمر، بمعنى أن يتحضر الشرق لثورة شاملة على نمط العلاقة الذي ساد بين مكوناته في عقود النفاق الطويلة.
حسن نصرالله، وبشار الأسد، وميشيل عون، وجبهة النصرة، ومقتدى الصدر، وحتى إيلي فرزلي ليس هؤلاء مجرد أشخاص يمثلون ذواتهم الكريمة، ولا يتزعمون تكوينات سياسية مقطوعة الصلة بالواقع، هم حيثيات لها إمتداد وعمق جماهيري، ولأفعالهم قبول ومسنودية، وخزانات بشرية ترفد التشكيلا ت العسكرية الموازية لتلك التعبيرات السياسية الإجتماعية، وتملك أيضاً نخباً ثقافية وإقتصادية وإجتماعية ترتبط بها، ما يجعلها مكونات مكتملة وقارة.
يسيطر هؤلاء على قطاعات واسعة في الحيز الإجتماعي المشرقي، وباتوا يشكلون نموذجاً جذاباً داخل أطرهم ونطاقاتهم الإجتماعية، نماذج تضمن إستمرار دينامية إستدعاء دائمة لنماذج مماثلة داخل كل الأطر، في مقابل، تراجع حاد للتعبيرات السياسية، العابرة للطوائف، وإضمحلال حضورها في ساحات العمل المشرقي، إن على المستوى الحركي والسياسي, أو من حيث تأثير نخبها الفكرية والثقافية، التي تكاد تتحول إلى مجرد تحفة قديمة بدأ الغبار يعلو صورتها ورسمها. حتى بدت هذه التعبيرات تتوسل الظهور بمظهر خجول وتسووي بحثاً عن القبول. كما أن أغلبها، وبفعل تركيبته الطائفية، وإفتقاره للامبدئية، كالأحزاب اليسارية، شرعت بعملية إعادة تموضع على أساس الإنقلاب من فوق، في فكر قياداتها، تمهيداً لإعادة صوغ الهيكل الفكري لها في عملية quot; غلاسنوستquot; جديدة وغريبة!.
لقد أظهرت الإستجابات والمواقف من الثورة السورية بما لا يدع مجالاً للشك، أن الإجتماع البشري في هذه المنطقة، على طول مرحلة تشكل الكيانات السياسية الحاضنة له ما بعد الإستقلال، ظلّ عند حدوده الدنيا التي لم تتجاوز حد التساكن القهري بين المكونات، مع إستمرار دينامية الصراع والعمل على تزخيمها الدائم في العقول والممارسة، إنتظاراً لتظهيرها في ميادين الصراع حين تلوح الظروف المناسبة، ما يحول هذه الظروف إلى إستحقاقات مستقبلية دائمة يتوجب العمل الدائم على تهيئتها، والأهم أنه يحولها إلى وظيفة مقدسة وأساسية، ويجعل ما دونها من وظائف، وخاصة ما تعلق منها بالعمل الوطني الكلي مجرد وظائف ثانوية لا قيمة لها، أو مجرد تورية على الفعل الأساسي المتمثل بإفشال المشروعات الوطنية الجامعة للمكونات المختلفة.
هذا يعني أن الأسس التي قامت عليها هذه الكيانات، بما فيها العقود الإجتماعية والدساتير والهياكل القانونية والأطر الناظمة لها والمؤسسات التي رعتها، تأسست على إنحراف مديد ومقصود لينتج هذا التشوه التاريخي والعطالة المستديمة، وذلك في ظل وعي تام من قبل كل القوى والمكونات، وبتخاذل مكشوف من قبل الأطراف التي تدعي نفسها حارسة للقيم والمؤسسات.
المشكلة في هذا الصراع المكوناتي إنتقاله من الحالة السلبية والكامنة، القائمة على الحذر والتردد والإنغلاق، أي حالة الدفاع السلبية، إلى مجال التطبيق العملي لصراع ظلّ يتطور في التصورات والذهنيات زمناً مديداً، ولينفجر على نمط صراع مدمر ومهلك، ليس للعيش المشترك وحسب، الذي لم يطور نفسه أصلاً وبقي عند حدود الضرورة، وإنما للوعاء الوطني الجامع، الإطار الحامي والضامن للسلم الأهلي، حيث يتمظهرهذا الصراع بأشكاله، درجاته، الأولى، على شكل تدمير للكيان الجامع والمغامرة به تمهيداً لتدمير البيئة الضامنة للسلم الأهلي.
وإلا ماذا تعني حروب quot;حزب اللهquot; التي يخوضها من كيس مقدرات الدولة اللبنانية والمكونات الأخرى له، ماذا يعني دخوله في حروب يعرف سلفا أن عائدها تدمير لبنان، أليس في هذا الفعل إنتقاماً مداوراً من الإجتماع اللبناني قبل أن يكون إستهدافاً لإسرائيل؟، وماذا يعني هذا الفساد المستشري بالعراق على أسس طائفية الذي يدمر مستقبل أجيال العراق ويضمنه رهينة دائمة في أحضان طهران؟، وماذا يعني إستمرار قتال بشار الأسد للسوريين وتدمير مدنهم وقراهم ومؤسساتهم، إن لم يكن له بعد طائفي وتخريبي؟.
لقد باتت الوحدة مكلّفة في هذا المشرق، ومن المعيب الإستمرار بهذه اللعبة الغبية، ولم يعد هناك شيئاً مخفياً، كل دعاة الطائفية والتفكك عبروا عن أنفسهم بوضوح وشفافية، على شكل حروب ومشاريع قرارات، ووراءهم كتل شعبية عريضة تشد أزرهم وتؤيد مساراتهم، وهذا النمط من التطاحن قاتل ومضيع للثروات.. في هذا المشرق لن تقوى الفكرة على البندقية والغريزة التي تحركها، تلك أمنيات ماتت وإستمرار إستجرارها سيزيد من موت المشرق.
فككوا المشرق، ليست دعوة لينتصر الطغاة وينجون بإرتكاباتهم، لكن لأننا علقنا بمأزق الإنغلاق على ضيقنا، ولقناعتنا بأن جيلاً سيظهر سريعاً داخل كل مكون يعيد صياغة التلاقي الوطني بطرق أكثر قابلية للعيش، أن هذا الجيل وحده القادر على التخلص من أيقونات التطرف التي صنعها المشرقيين وعلقوها على صدر وجدانهم. فككوا المشرق لتنجو دمشق، وربما بيروت وبغداد من دمار بدأت تلوح نذره في الأفق القريب، وكي لا يذكر التاريخ أننا كنا منفصلين عن الواقع ولم نقرأ الأمور في سياقها الصحيح.