ننسى كثيرا هذه الأيام والشكوى تتردد على ألسنة الجميع، لكن الحقيقة إننا ننسى الأشياء والوجوه والتفاصيل الباهتة التي لا تستدعي صلاة ولا حب، أو المزعجة التي في إهمالها راحة للبال العامر والقلب المشغول، ماننساه هي الأشياء والمساحات الفارغة التي يشغلها البياض المحايد والتي لا تثير فينا مشاعر قوية ونافذة في القلب، فموعد الحبيب لا أحد ينساه لكننا قد ننسى موعد الطبيب، وكتاب مشوق مأخوذين به لا ننسى أن نكمل قراءته،لكننا ننسى موعد تجديد إقامة الخدم،وتواريخ تشكل تحولا ما في أعمارنا تظل تشغلنا، بينما أرقام أخرى ننساها ليس من بينها رصيدنا في البنك مثلا الذي يظل مؤشر صعوده نزوله مبعث اهتمام.

الذاكرة لا تنسى البيت الأول لنا رغم إنه لم يعد له وجود على الخريطة منذ سنوات طويلة، ونجد إننا حتى الآن قادرين على العودة بالزمن للوراء لاستعادة الجدران التي شخبطنا عليها والأبواب التي استعضنا عنها بسبورة الفصل ونحن نقوم بدور المعلمين، وكذلك فارس أو عروس الأحلام أيام المراهقة والصداقات الأولى ومدارسنا في المراحل المبكرة،والسرد الذي سمعناه ونحن صغار من جداتنا فشكل خيالنا وحرث خصوبته ولون المخيلة، كل هذا عصي على النسيان يقاوم زحام العقل بمشاغل يومية تبدأ ولاتنتهي، حتى لو لم يعد لهذه الكيانات وجود لكننا لاننساها أبدا لأننا أحببناها بقوة وصدق وشغف.

لكننا تحولنا من الذاكرة البشرية بكل حسها الإنساني، وتفاصيلها المبهجة إلى الذاكرة الالكترونية التي تركنا لها المهمة والتي صارت تلقائيا تحفظ لنا كل شي حتى رقم موبايل الحبيب أو الأم حيث يحفظهما الجوال وينساهما القلب،وكأننا صرنا بلا قلب.

ولانلتفت إلى أن طمس الذاكرة بطين التغافل أو إلغاء الأشخاص منها بطلاء باهت وبارد أو إقصائها من الزخم الروحي بكل مايحمله من طاقة ينفينا خارج الحياة، يطردنا خارج الزمن، ويحولنا إلى أشخاص آليين يسلخنا من إنسانيتنا وقيمتنا العظيمة لننسى ونظل ننسى ونشكوا النسيان حتى تشيخ الذاكرة ثم تموت، لنصبح مثل الروائي الكبير ماركيز الذي عاش على مخزون الذاكرة كل عمره الروائي ربما منذ تعلم القراءة والكتابة وافرغ بالسرد كل الصور والوجوه والأماكن والتفاصيل التي عاشها في أعماله الأدبية وحين فرغت ذاكرته تماما ولم يعد لديه مايدونه أصيب بالزهايمر بينما نحن ننسى دون أن نخلف وراءنا أرثا أدبيا أو إنسانيا.

@monaalshammari