عدا المقدسيين الصامدين والأقباط ومسيحيى العراق والآن فى سوريا والسودان لاأعرف من جرب هذا الشعور المهين : شعور الصلاة تحت الحراسة هذا الشعور المقصور على هذه المنطقة المنكوبة من العالم شعور لا يمكن أن يصفه الا من جربه فبينما ترفع الصلوات هناك من يقف شاهرا سلاحه خشية الهجوم على أناس يقيمون شعيرة فى صمت (حيث ممنوع مكبرات الصوت منعا للإزعاج) يقيمونها تقربا لالههم طمعا فى مقعد بالجنه، وليست تظاهرة للإستيلاء على مقعد فى سلطة، والاكثر ايلاما أن هؤلاء هم مالكو هذه الارض التى يصلون فوق ترابها، ملكية ليست بوضع اليد بالتقادم الزمنى لكن بصكوك لا تقبل التشكيك،أى أن هؤلاء ليسوا وافدون، أو مهاجرون،أو طالبو لجوء،لكنهم موجودون بعقيدتهم هنا على هذه الارض قبل كل هؤلاء الذين يتضايقون من ممارسة أناس لطقوس عقيدتهم، أكثر من هذا وذاك أن هناك عهودا ومواثيق مكتوبة ومبلغة، من صحابة وتابعين أجلاء لأهل هذه الارض أؤتمنوا فيها بنصوص معلنة لا لبس فيها على كل ما يملكون عقيدتهم وكنائسهم وصوامع رهبانهم وأعرضهم وتجارتهم (كل أنواع تجارتهم بما فيها الخمر والخنازير )، ولم يكن ذلك مقابل صفقه أو مبادلة، بل كانت عهدا على التعايش السلمى بين محارب فارس جاء بمبادئ عقيدته الفطرية السمحة، وبين أعراق إستقبلته بالمحبة والإخاء والسلام كمبادئ سامية عليا للتعايش بين البشر جميعا، على أرض مالكها هو خالقها.

إن التاريخ المتفق علي مصادره الصحيحة يقول أن خراج الأقباط الوفير وعمالتهم الماهرة،كانوا خير معين للدولة الناشئة فى بسط سيطرتها على أرض الكنانة، وأن ابن العاص دخل مصر بالقوة الناعمة كعسكرى وسياسى محنك،كسب ود الاقباط وأمن جانبهم باحترام عقيدتهم ورد الاعتبار لرئاستهم الدينية،مما شجعهم على معاونته، ومساعدته على تنظيم الدولة، وكشفوا له كوامن القوة والضعف فى طول البلاد وعرضها، بصفتهم أدرى بشعابها من غيرهم، وقام بناؤوهم ومعماريوهم وفنيوهم وإداريوهم المهرة،بتشييد المساجد والقلاع والقصور،وتنظيم أمور الرى ومساقى المياه وحماية الجسور، وكل مهام المساحة والوزن والقياس، وتحصيل الخراج وغيره، ويقول التاريخ أن سرعة اندماج العر ب والاقباط كانت أسرع عملية اندماج عرقى فى التاريخ،فى كل اقاليم الدولة الاسلامية،ويكفى ان ندلل على ذلك بسرعة إستيعاب الاقباط للغة العربية وإتقان آدابها وقواعدها، فى وقت قصير نسبيا بالنسبة لاعراق أخرى لم تندمج حتى اليوم فى لغة العرب وثقافتهم رغم إعتناقهم للعقيدة. ورغم التداخل الجغرافى والاندماج الثقافى ظلت أمور العقيدة المسيحية التى يعتنقها الاقباط لها خصوصياتها التى لم يقترب منها أحد طيلة ألف عام ( بإتفاق الطرفين). أن سقط القبائل اللذين ينقضون هذه العهود اليوم على الملأ، عليهم أن يعلنوا أيضا على الملأ وصراحة أن ابن الخطاب وابن العاص(رضى الله عنهما) كانوا مخطئين عندما هادنونا وأحسنوا إلينا منذ الف عام، وأن يعلنوا أيضا أن مسلك (العمرين الجليلين) شابه عوار، وأن أعمال القتل والتمييز والفرز على الساحة الان هى تصحيح لهذا المسلك (المعيب )وأن تأويلات ابن تيمية وأبو الأعلى وابن عبد الوهاب ومنشورات عمارة والقرضاوى والعوا والدعاه المحدثين تجب كل ما سبق وصدر عن أمير المؤمنين والصحابة الأول، اللذين نهلوا من المنابع الاولى الطازجة والصافية للرسالة وأهمها وصية رسولهم وقائدهم الاعظم : ببر أنسباؤه والأستيصاء بالعدل معهم،ومجادلتهم بالحسنى، وإتخاذهم أجناد،وأن من يؤذهم فقد آذاه، وإن كانت حوادث قد جرت خارج السياق فذاك كان مرجعه حداثة عملية التمازج بين أعراق مختلفين فى الثقافة اختلافا بينا فى حينه، لكن ظل مبدأ التعايش الحتمى هو المبدا السائد والغالب.ودليلنا أن الاقباط وقد ظلوا لألف عام أغلبية عددية لم يفكروا فى التقوقع أو الانعزال الجغرافى على الاطلاق حتى فى أشد عصور الانحطاط والتخلف.

إن كل القبائل التى عبرت إلينا وجاءت بأسمائها وحتى اسماء محلاتها فى وديان نجد والحجاز وهى تفتخر بذلك حتى اليوم ونحن هنا لانشكك فى ملكية أو شراكة أحد فى الوطن وكنا فى استقبالها وتعايشنا معا راضين،واقتسمنا كل شيئ بدءا من جور وظلم الحكام ومرورا بالاوبئة والمجاعات وحتى غضب النهر من فيضان وتحاريق وكانت هذه القبائل تعرف تفاصيل عقيدتنا وفلسفتها وطقوسها منذ ألف عام لأنها كانت عقيدة أبناء عمومتهم من بطون قبائل عريقة فى كل جزيرة العرب، كانوا يعرفون عنها أكثر مما يعرف الغوغاء على قنوات الارهاب النفطى اللذين يحرضون على مهاجمة نساء وأطفال آمنين فى بيوتهم بدعوى الجهاد. أى أن علامة الصليب وعقيدة التثليث والتوحيد وأتباعها لم يهبطوا فجأه على مصر، بعد أن احتلتها الجماعات السلفية، التى فرخها السادات فى سبعينات القرن الماضى في مفرخات سريعة لحمايته من الشيوعيين (الكفرة).

إذن ما الجديد؟ ولماذا أمارس شعائرى فى وطنى تحت الحراسة ؟ إن الجديد هو هوس الدولة الدينية، الذى يموله فائض الثروة التى انفجرت فى بقاع لا تملك مؤهلات وقواعد الإنفاق الرشيد بحكم التاريخ والثقافة،فبذروا ثروات هائلة طائلة يمينا ويسارا مرات فى سفاهات ومرات فى تفاهات ومرات فى أوهام جرت ما جرت من الخراب على كل شعوب المنطقة والخراب الأكبر جرى على قضية العرب الاولى التى تاجروا فيها بالشعارات والحناجر والميكروفونات، فى حين لو خصص لفلسطين عشر عشر عشر ما انفق بسفاهة وتفاهة هنا وهناك فى قارات الدنيا الخمس، طيلة نصف قرن لصمد الفلسطينيون فى أرضهم، وقاوموا وفرضوا شروط الجغرافيا والتاريخ على المحتل،وعندما أعلن الاسرائيليون نيتهم المبيتة لتهويد دولة اسرائيل أى إقصاء كل من ليس يهودى كانت الطغمة الصهيونية الحاكمة تعلم تماما ضعف موقف العرب فى هذه القضية بالذات، فالدولة الدينية اليهودية التى تضمن نقاء العرق،والإقصاء العنصرى هو نفس برنامج التيارات السلفية المستشرى فى بلاد العرب، لإقامة دولة دينية يطرد منها كل من ليس عربى مسلم، أو يباد أو يعيش مواطن درجة ثالثة وما يحدث للاقباط والاشوريين والكلدان والافارقة والصابئة واليزيديين وغيرهم من أهل هذه البقاع الاصليين، خير دليل على عنصرية هذا التوجه المقيت، وعليه لم يجادل العرب كثيرا فى هذه القضية، لان الحجج واهية والخساره مضمونة، والخاسر الاكبر هو شعب مطحون سلم قضيته لمحامين فشلة جروها من فشل إلى فشل الى فشل وتاجروا بشعارات تتمسح بالقضية، لحماية أنظمة فاسدة جاثمة على صدور أمة مطحونة لم يعد لها حول ولا قوة ولاتملك سوى الصراخ بنصوص محفوظة مملة مكرره سأمها كل الناس.

أيها السادة الأحرار الذين تتشدقون بحقوق الانسان إن الشرطى البائس القابع على باب كنيسة وبندقيته البدائية هو رمز احتقار بشر لبشر واستعلاء بشر على بشر وهو سبه ليست فقط فى جبين الحكام الذين كرسوا هذا النظام بل فى جبين كل أصحاب الضمائر الذين شاهدوا وشاركوا بالصمت ولم يدافعوا عن قيم الاسلام السمح، الاسلام الذى تعايشت الاعراق بأمان تحت مظلته قرون عديدة، فى مصر والشام والاندلس، وحتى فى الصين والهند، وغيرها بقاع كثيرة فى كل المعمورة.

ونقول للذين يصورون المشهد لهؤلاء الشباب المغرر بهم، كما لو أن الاقباط هبطوا على مصر فى سبعينات القرن الماضى،وأن الكلدان والاشوريين قدموا للعراق مع الغزو الامريكى، نقول لهؤلاء العنصريين، الذين حولوا التطرف الدينى الى صراع عرقى،ليتمكنوا من بث سموم الكراهية بين مكونات هذه الاوطان لأهداف خبيثة نقول لهم : أن الاقباط على مدى تاريخهم، لم يكونوا سوى عنصر بناء لاعنصر هدم،عنصر سلام لاعنصر عنف، ولم يكن لهم مطمع سوى العيش فى سلام، ونقول لهؤلاء أيضا ان مسيحيى العراق لم يساهموا فى استدعاء بوش ليكتسح بغداد ورغم ذلك دفعوا ثمنا باهظا لجرم لم يرتكبوه.

إن قرارا جريئا برفع هذه الحراسات التى لم يثبت فى مره واحده أنها منعت هجوم على كنيسة (إما هرب الجندى وإما قتلوه )، سوف يضع كل طرف أمام مسئولياته، إما أننا أعراق تبغى العيش المشترك، متساوون أمام قانون نرتضيه،وعقد شراكة نتوافق عليه، أو أن أحدنا يريد إقصاء إلآخر بذرائع شريرة،وساعتها لا ينفع إلا الحلول الجريئة، فإذا كنا قد وجدنا طرقا فى الماضى للدخول بالمعروف،فهناك طرقا فى الحاضر للخروج به أيضا، أما المراهنون على خنوع عرق ما للذل والارهاب إلى الأبد،فهم واهمون واهمون،فهو ضد كل سنن التاريخ على مر العصور.واذا انتفض الاقباط فسيحطمون كل التابوهات وسيكون مطلب وطن حر ومستقل هو المطلب الاول والاخير.