كثير شاهدوا الحلْقة قبل الأخيرة من برنامج quot;الاتجاه المعاكسquot; وهي التي شهدت تلك المشادة الكلامية الهابطة، وما تلاها من عراك لم ننعم بمتابعته...، كما نعمنا بسماع الشتائم المشرّفة، والرافعة للذوق الرفيع، أصلا في مجتمعاتنا العربية.
وبالرَّغم من مرور وقت على تلك الحلقة فإنها لا تزال تثير ردود أفعال، وسط هذا التصعيد الدائر بين طرفي النزاع في سورية، وهو الذي يمتد إلى لبنان والعراق؛ وهنا صارت الحروب الكلامية في تنافس مع الحروب الفعلية، وكلاهما تجتازان الضوابط؛ فليس مستغربا أن يشتعل أستوديو quot;الجزيرةquot; وأن نشهد تغييرا لمقدِّم البرنامج، الدكتور، فيصل القاسم، في الحلقة التالية، وهو الذي ارتبط البرنامج به ارتباطا عضويا.
لسنا بحاجة إلى التذكير بدور الإعلام، وحاجتنا الماسّة إلى مضامين أكثر عقلانية، وأكثر مسؤولية، ولا سيما في هذه الأجواء، لكن الحاصل أن القوى، في غالبيتها قد حَسمت موقفها، لصالح نظام الأسد، وإيران، أو لصالح الثورة، والمعارضة، ومن تلك الجهات التي حُسمت وسائل الإعلام، والإعلاميين.
ومع أن بعض القوى السياسية كـquot;حزب اللهquot; اضطر إلى الحسم النهائي، كما يبدو، وفي ذلك مغامرة كبرى، على مستقبله، ودوره، إلا أن ما يخاطر به quot;حزب اللهquot;، بأرواح مقاتليه، وأنصاره وحاضتنه في الطائفة الشيعية، وهو أعظم من مخاطرة القنوات، بصدقيّتها، واحترامها، لكن فضيحة الإعلام عامة، ووسائل الإعلام، فوق ذلك لا بد لها من رباط أخلاقي مهنيّ، مهما اختلفنا حولَها. ومهما كانت الجهة المموِّلة لها، والسياسة التحريرية التي تتبعها.
بالطبع، ليست أية وسيلة إعلامية في العالم محايدة، ولكن ثمة أعرافا وتقاليد، لا تسمح تلك الوسائل العريقة بتجاوزها، إلى هذا الحد الشَّوارعي الذي تكرر في برنامج quot;الاتجاه المعاكسquot; صحيحٌ أن فكرة البرنامج، وسرّ جاذبيته تقوم على الإثارة والتثوير، ولكن الأمور زادت عن حدِّها، ولم تبقِ للمماحكين من عامة الناس الكثير، ليقولوه.
ولو نظرنا من جانب آخر، وهو الجانب اللغوي...أين هي اللغة العربية من هذه المقتلة الإعلامية السياسية؟ ربما هذه مناسبة لمناصرة الرأي القائل بأن اللغة هي وعاء للفكر والشعور، أكثر مما هي متحدة بهما، أو صانعة لهما، فالكل، من المتحاربين، بأنواع الحرب، يتكلم لغة واحدة، وليس ثمة سوء فهم ناشىء عن عجز أيّ طرف في إيصال رأيه وموقفه إلى الخصم، أو العدو، بل ربما كان الوضوح الشديد في المواقف هو مما يؤزِّم الحرب، ويزيد الكراهية.. ومن الواضح أن العوامل الأخرى حين تظهر، كمثل الصراعات المصلحية والطائفية والدينية تطغى على اللغة المفترض أنها عنصر من عناصر التقريب الفكري والوجداني..
وعطفا، على ذلك، فإنَّ الهبوط الفكري، والانجرار إلى المناطق الشخصية في النقاش، بل تعمُّد إثارة الطرف الآخر، مما يعمل على الهبوط بمستوى اللغة إلى أدنى دركات الشتائم، داخلة إلى بيوت الناس، وقد كان ثمة عقد ضمني بين المشاهد والقناة أنها قناة عربية تراعي ثقافة الجهة المستهدفة، وتحترمها.
علما أنه بمقدور كلٍّ من طرفي النقاش اللجوء إلى مرجعيته الفكرية والسياسية ليخاطب من يشاركونه من الناس فيها، أو من يطمح بضمِّهم إليها، دون حرمان نفسه من هذه الفرصة الثمينة، بتحويل النقاش إلى مجرد شتائم لا تفيد أحدا، إلا رغبات آنية في الانتقام الضيق جدا.
وليس بالضرورة أن يتساوي المتحاوران في الرُّتبة العلمية، فليس الذوق والثقافة متوقفةً على مقدار التعلُّم، وإن كان يُفترض فيمن يحمل شهادة علمية أن يكون أكثر تقديرا لمكانته، ولا ينزلق إلى نقاش غير مناسب، ولا يلتزم بضوابط النقاش الذي يثري المتلقي، ويبصره بزوايا لم ينتبه إليها، مثلا.
وللأسف الشديد فإن مثل هذا النوع من النقاش غير الموضوعي، باللغة الهابطة، يعمل على كسر القيم التي نتعايش بموجبها، ولو في العلن، فلنُبقِ لها بعض الاحترام. وهذه القيم القادرة على حفظ هيبتها الضرورية يظل لها فاعلية دائمية ما دامت محترمة، أما إذا تكرر ضربُها، فإنها مع الوقت تفقد هيبتها، وتُؤْذِن بتغيّر أعرافٍ ضرورية.
وكنت قد طالعت مقالا منذ سنوات للدكتور، فيصل القاسم عن فكرة quot;الجمهور عايز كدهquot; لم يؤيد فيه بعض أرباب الإعلام والفن الذين يزعمون أن ما يبثونه من مواد متدنية المستوى، إنما تراعي ذوق الجمهور الذي يطلبها ، مع أن المسألة جدلية: أيهما يؤثر في الآخر، أكثر؟ هل الإعلام يعكس الواقع؟ أم أن الواقع يتغذّى من الإعلام؟
لكني أعتقد أنه على كل الأحوال لا ينبغي للإعلام أن يجنح إلى أسوأ الاختيارات، ويتماهى مع أدنى المستويات. إلا إذا كان القائمون عليه يتبنون أسلوب الصدمة، ولسنا في حاجة إلى صدمات كثيرة، فالصدمات الإعلامية لم تعد تمثّل صدمة في ظل صدمات الواقع، وسيل الدماء والصور المفجعة عن المجازر والمقابر الجماعية...
ولكن الحرب أولُّها الكلامُ، ولا أملَ كبيرا في رفع سويّة الكلام، إذا اخْتُرق ما بعد الكلام.