بغض النّظر عن الاتجاه الذي تسير نحوه الأزمة مع كوريا الشمالية، فإنها يمكن أن تشكِّل مساحة للمح طريقة التعاطي العربي معها؛ وما يعنيه ذلك من مواقف من أمريكا والدول المشاكسة لسياستها، كما كان من نيوزيلندا- شافيز، وكوريا الشمالية، وفي منطقتنا إيران، وكلّها دول لا تقوى على أن تكون ندّاً لواشنطن، لا اقتصادياً، ولا عسكرياً، ولا حتى ثقافيّاً، من حيث قدرة أمريكا على نشر ثقافتها، وقوتها النّاعمة عبر وسائل إعلام طاغية، وأما التفوّق العسكري والاقتصادي فليس بحاجة إلى إثبات...

من الطبيعي أن تحاول دولٌ الاستقلال عن السياسة الأمريكية، ومن الطبيعي، من ثَمَّ، أن تحاول تحقيق ذاتها دولياً، ولكن ذلك مشروط بتوفير عناصر هذا التحقُّق، بجميع متطلباته، هذا إذا افترضنا الجديّة والمسؤوليّة فيما تقول، وفيما تُدخِل به شعبَها، ومحيطها الإقليمي، فالدولة ينبغي لها أن تحدّد مصالحها، وتحدّد أهدافها، وَفْق قدراتها، وأفكارها.
ومن المتفق عليها أن دولا مثل كوريا ونيوزيلندا وإيران لا تقوى بمفردها على الدخول في صراع حقيقي مع أمريكا، وإذا كانت روسيا تعلن أنها متقاربة جدا مع مواقف واشنطن فيما يتعلق بالأزمة الكورية، والصين لا تظهر استعدادا للدعم المطلق لـquot;بيونغيانغquot; بل إن بكين تخشى من استخدام واشنطن لهذه الأزمة؛ لتغيير التوازنات، ونشر مقاتلات بي 2 وغيرها من أنظمة الأسلحة المتطورة، وفي هذا السياق أتى تصريح الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي قال: quot;إنه لا يمكن السماح لأية دولة بأن تدفع المنطقة، أو العالم بأسره إلى حالة من الفوضى من أجل مكاسب أنانية..quot;
وهو تصريح يشمل كوريا، كما قد يشمل أمريكا، فإذا لم تقم مؤشرات كافية على دعم روسي ولا صيني لهذا التأزيم، ولهذه المواقف الكورية؛ فأين المؤشرات على صراع جدي مع واشنطن؟.
وأين العرب من ذلك؟
قسم من العرب مستاؤون من السياسة الأمريكية، ويجدون في أية دولة، ولو متواضعة، تدخل في خصومة مع الولايات المتحدة ما يعوِّض ما يرونه من قصور عربي؛ يحول دون فرض احترامهم على واشنطن، كما تفعل بيونغيانغ مثلا؛ إذ لا تجبن عن تهديد الدولة الأولى عالميا، والتهديد بضرب قواعدها في المحيط الهادي، أو حليفتها كوريا الجنوبية، وتحدّيها بإجراء تجارب نووية متتالية.
ولا نبعد لو قلنا إن قسما من العرب يتعاطفون مع إيران، كذلك، برغم الفروق بينهم وبينها قوميا، وحتى مذهبيا، وبرغم مواقفها التي لا تخلو من عنجهية وتدخّل؛ لأن طهران كذلك تبدي مواقف غير متهاونة تجاه واشنطن، ولو بالمراوغة، والخطابات اللفظية، أو بما تبديه من دعم لحركات المقاومة، في لبنان وفلسطين في مواجهة حليفة واشنطن إسرائيل.
هذه الدوافع النفسية مفهومة، ولكن عند ممارسة السياسة العملية فإن الترجمة العملية لهذا المنطق تكون متواضعة، وأحيانا يكبِّد الدول المتهوِّرة في تلك المواجهات خسائر ماحقة مدمرة؛ فنحن هنا لسنا في سجالات شعاراتية، وإنما في دول تضع لنفسها خططا استراتيجية قابلة للتطبيق، فهي إذا بالغت في التصعيد بما يفوق قدراتها الفعلية، فإنها تستنزف طاقتها، وترهق شعوبها، وقد تتهور في مواجهة غير متكافئة؛ فتخسر داخليا، وتخسر خارجيا.
صحيح أن أية دولة تستطيع أن تساوم بما تملك من أدوات الضغط؛ لتحقق بعض المكاسب، وهي كذلك تستطيع أن تستثير الروح الوطنية، أو القومية، في شعبها، أو أمّتها؛ حتى توحدّها وراء قيادتها السياسية، وتغلِّب تحدّياتها الخارجية على اختلافاتها الداخلية، إلا أنها قبل ذلك ينبغي أن تكون قد أنجزت الوحدة الداخلية في حدودها الأساسية، وأن تبني قدراتها؛ لتكون قادرة على خوض الصراعات الخارجية، وهذا البناء له مظهران: فكري اجتماعي، وبناء مادي اقتصادي صناعي تسليحي، وبعد ذلك عليها أن تنظر في ميزان القوى من حيث الضخامة والامتداد، فلو فرضنا أن طهران، مثلا، قد حققت البناء الداخلي الكافي، اجتماعياً وتقنياً وتسليحياً، فإنها قبل أن تتأهل إلى دور عالمي فإنها بحاجة إلى نجاح في محيطها؛ لتتضافر جهود الشعوب والدول المحيطة بها معها، وليكون لها عمق جيوسياسي ضروري في مواجهة قوى عظمى، عدديا، ونوعيا، ومن حيث النفوذ العالمي والتَّحكم في أدوات الصراع المختلفة على امتداد العالم، وهذا يتطلب في المقام الأول رسالة واحدة تجتمع عليها هذه الدول، لو لم تكن تفصيلية، وتامة إلا أنها رسالة ثقافية سياسية ضرورية، إلا أننا، وفي أجواء الانقسامات التي تزداد تعمقا، وفي ظلّ تأصُّل الرّوح القُطْرية، أو الأقل من قطرية، ومع انعدام الثقة، أو ضعفها، فإن منطقتنا غير جديرة حتى الآن بإفراز قوى قادرة على فرض احترامها على العالم، بل كثيرا ما نرى التقاطعات مع الدول البعيدة أكثر مما هي مع الدول القريبة.
وإذا لم نفلح نحن في هذا التقارب الضروري، فلا يفيدنا تعلُّقنا بكوريا الشمالية، ولا بغيرها.