أثق تماما في حركة التاريخ، و قد قال التاريخ كلمته الحاسمة و كتب في لوحه الثابت المحفوظ أن أسطورة quot;الإسلام السياسيquot; قد انفضحت و انتهت، و أن مفعولها السحري على المخدّرين و المخدوعين و المغسولة أدمغتهم و سائر الغلابى و المساكين قد زال، و أن تجارتها الضرار قد بارت، و أن الدّين الحنيف السمح قد تحررّ نهائيا من هيمنتها و استغلالها و أنه عاد منذ سقوط الإخوان يوم 30 جويلية 2013 في ميدان التحرير ملكية مشاعة لجميع المؤمنين العارفين السالكين ممّن ولوا وجوهم حبّا و كرامة للحيّ القيوم طلبا لوجهه الكريم فحسب، لا لثورة يركبونها أو سلطة يمتصّونها أو بلد آمن يروّعونها.
و قد رأيت فيما يشبه رؤيا المولعين بجدلية التاريخ، أن الربيع العربي لم يكن إلا حركة quot;تسوناميquot; عظيم، كأي تسونامي ثار في الطبيعة له موجتان، موجة أولى انطلقت من تونس في اتجاه المشرق، فحطّمت الأنظمة السياسية القائمة من تونس إلى ليبيا إلى مصر إلى اليمن، ثم انتهت على الجدار السوري الجبّار فتحطّمت على صخور مقاومته الصلدة، لتبدأ من هذا الجدار الموجة الثانية لتسوّي من المشرق في طريقها إلى منتهاها التونسي المغربي أبنية الإخوان الخربة المسوّسة المغشوشة التي ما كان لها أن تظهر دون هذا الطوفان الهائل، فتنقضها بعد ذلك عرورة عروة، و تسمح بعدها بإقامة الأنظمة المنتظرة المتوقعة التي ستستعيد فيها شعوب المنطقة دولها المدنية و تتمكّن بعدها من تشييد ديمقراطياتها المعاصرة المكينة بعيدا عن دجل المتأسلمين و تجّار الدّين الأشرين، أولئك الذين اقتنصوا فرص انهيار الأنظمة المستبدّة السابقة، تماما كما يستغل سائر تجّار الحروب أزمات شعوبهم لتحقيق مكاسبهم غير الإنسانية القذرة.
و يعلم الجميع أن انطلاق الثورات العربية التي ناهضت الاستبداد و بشّرت بالديمقراطية، من تونس تحديدا لم يكن صدفة تاريخية، بل كان حقيقة تاريخية، فقد بدأ هذا البلد رحلته مع أسئلة النهوض و التقدّم قبل سائر بلدان العرب، و جاءت دولته الوطنية المستقلّة متميّزة عن سائر بلدان العرب، من حيث تركيزها على تحديث التعليم و الدّين و إنصافها للمرأة، و سيكون مفارقا للتاريخ دائما لو أن هذا البلد تحوّل من دون بلدان العرب إلى استثناء يحكمه الإخوان، فتونس لن تكون أبدا السودان أو الصومال أو أفغانستان، و التونسيون الذين عشقوا التحررّ و التقدّم و الانفتاح و التواصل مع العالم على مر ثلاثة آلاف سنة من تاريخهم المجيد المديد لن يقبلوا أبدا بأن يكونوا خارج العصر و التاريخ و الإنسانية، و لن يسلّموا لقوم يريدون أن تجري عقارب الساعة في بلادهم إلى الخلف.
و قد أفلح أيّما فلاح الذين أطلقوا على حركة إنهاء حكم النهضة الفاشل الخائر المشبوه، اسم quot;اعتصام الرحيلquot;، لأن هؤلاء الغرباء عن التونسيين من ذوي الهيئات الغريبة و الوجوه المكفهرّة و العيون المتّقدة شرّا سيرحلون عن أرضنا لا محالة، ليزهر فلّها و ياسمينها من جديد، و سيغادرون سماءنا الزرقاء الزاهية دون رجعة غير مأسوف عليهم لتشرق شمسها مرّة أخرى، و سيندم كالعادة جميع المترددّين و المخاتلين و غير الواثقين من أن معركة الشعب مع المتأسلمين هي معركة مفصلية و مصيرية، لا مجرّد معركة سياسية عابرة، فاعتصام الرحيل فصل من فصول الحسم في كتاب التاريخ التونسي، و ما يأمله العارفون أن لا يخذل هذا الشعب العظيم و أن تكون نخبه الوطنية و الديمقراطية و التقدّمية في مستوى هذه اللحظة التاريخية، فلا يجبنون أو يخونون أو يبيعون.
و لا ينظر إلى ذلك الحاجز الذي أقامته قوّات الأمن و الشرطة بين اعتصام الرحيل و اعتصام الشرعية في ساحة باردو النيابية، إلا حاجزا بين مشروعين متناقضين متباعدين لا يلتقيان، مشروع يمثّل خيار التقدّم و الديمقراطية و الحداثة و الدّين القويم، و مشروع يرمز إلى خيار الاستبداد الديني الكهنوتي الذي هو أبشع أنواع الاستبداد في التاريخ البشري، و الذي يطمح من خلال مراهنته على تسخير أدوات المراوغة و المخاتلة و المناورة و المداورة و شراء الذمم و الضمائر و صغار النفوس ممّن لديه استعداد لقبول فتات السلطة و ما تجود به أيادي الشيوخ، على اغتصاب السلطة و تحويل وجهة الدولة المدنية.
و تلوح جماعة الإخوان في تونس اليوم، أكثر عزلة من أي يوم مرّ عليها منذ تأسيسها قبل أربعين عاما، فهي تقف عارية السوءات في وجه المجتمع المدني الحقيقي و جميع القوى الوطنية و الديمقراطية الحقيقية و وسائل الإعلام و الهيئات النقابية و المهنية و الأطراف الإقليمية و الدولية، و ليس لها من أمل في فكّ عزلتها إلا بمزيد من الهروب إلى الأمام، إذ يوسوس لها شيطان السلطة الرجيم بأنه سيكون بمقدورها مواصلة العمل بالمجلس التأسيسي دون نوّابه المخلصين المنسحبين، و العمل بحكومة الترويكا الثانية رغم أنف السياسيين، و ربّما كتابة دستور و تشريع قانون انتخابي، بل تنظيم انتخابات، في عزف سياسي منفرد و استهتار مريع غير مسبوق بإرادة و آمال التونسيين..
و لسوف يكابرون و يعاندون و يعربدون..ثم يناورون و يزيّفون و يلفون و يدورون..ثم يفشلون و تذهب ريحهم و ينهارون و يستسلمون..ثم ينتهون، و لن يذكرهم بخير يوما التونسيون، لأنهم لم يعيشوا في عهدهم المفتون، يوم خير واحد quot;محنونquot;..