تكتسب العلاقة بين سوريا وتركيا خصوصية تاريخية واجتماعية مميزة نتيجة علاقات الجوار والتاريخ والجغرافيا التي لم تنقطع على مدى مئات السنين بين الدولتين اللتين تتسم علاقتهما في العصر الحديث والمعاصر بالتوتر والعداء بسبب هيمنة الإيدولوجيات القومية على سدة الحكم في كلا البلدين، وحرصها على quot;تسميمquot; العلاقة لغايات انتخابية وسياسية محضة.
الانفراج الذي عرفته العلاقة بين البلدين بعد وصول حزب العدالة والتنمية التركي ذي الجذور الإسلامية إلى الحكم بعد فترة الانقلابات العسكرية على اي محاولة لدمقرطة الحياة السياسية في الامبراطوية المترامية الأطراف، انعكس انفراجاً على العلاقات الاقتصادية الرسمية فضلاً عن الشعبية التي لم تتوقف أصلاً، وليبلغ التبادل التجاري بين البلدين خلال أقل من عشر سنوات نحو 10 مليارات دولار.
في زيارتي الأخيرة إلى تركيا، يشدك الترحاب الذي يحفك به الأتراك والأدب الجم الذي يتمتعون به في استقبال الضيوف، لكن الأمر يبدو مختلفاً عندما يعرفون أنك آت من بلد عربي كسوريا، فتبدأ المشاعر الجياشة بالتدفق في محاولة لتقديم ما يستطيعون والتعبر عن تعاطفهم ووقفوهم إلى جانب الشعب السوري.
اسطنبول.. جوهرة تركيا التي لا يمكن للعين أن تخطئها، تقف مشدوهاً أمام مدينة عملاقة مترامية الأطراف، يبلغ تعداد سكانها وحدها تعداد سكان سوريا تقريبا (نحو 20 مليون نسمة) ليشدك العمران والتطور الحضاري وتدرك بمجرد أن تطأ قدمك أرضها أنك بت خارج العالم الثالث بمسافات!!
في اسطنبول كما في كل المدن الكبرى العالمية، امتزاج عجيب للثقافات والأعرق والأجناس، تلحظه في الوجوه والقسمات، لكنك بت ترى مؤخراص الملامح العربية السورية في عدد من الأحياء الإسطنبولية الآسرة، والتي قطنتها الأسر من كافة المحافظات السورية إلى جانب الاماكن الأثرية التي تحمل عبق التاريخ والتراث.
مطاران والثالث على الطريق ليكون الأضخم في العالم، وثلاث رحلات جوية تحط أو تطير في الدقيقة الواحدة، ولوحة عملاقة تتوسط المطار فيها مواعيد أكثر من مئة رحلة داخلية تربط المدن التركية باسطنبول، بعد أن افتتح أردوغان المطار الحادي والخمسين مطلع رمضان الفائت.
لا تسمع العربية كثيراً في خضم الزحام في اسطنبول، لكنك ما تلبث أن تشعر بحروف الللغة الأثيرة لدى العرب والمسلمين في المدن الجنوبية في تركيا، وغيرها من المدن الداخلية التي باتت مهوى آلاف السوريين، فنصف مليون لاجئ مسجل لدى الحكومة التركية، لا ينفي وجود ما يقرب من مليون ونصف سوري خارج المخيمات، ينتشرون في كافة المدن التركية بلا استثناء أو تضييق على أحد.
انطاكيا.. واحدة من المدن الجميلة الوادعة التي زرتها، ورغم المخاوف التي انتابتني عن احتقان طائفي ومذهبي يعتري المدينة، بسبب وجود نسبة مرتفعة من العلويين المؤيديين للنظام السوري فيها، إلا أن رحابة الاستضافة وسهولة التعامل باللغة العربية التي يتقنها الأتراك هنا من باب الاعتزاز بجذورهم القومية العربية (لواء اسكندرون) يخفف من وطأة هذا الاحتقان، لكنك لا تلبث أن تسمع عن ممارسات متفرقة في بعض الأماكن التي يقطنها العلويون الأتراك تستهدف اللاجئين السوريين المتدفقين إلى انطاكية ومدن لواء اسكندرون أو (هاتاي) كما يسميه الأتراك، وبالذات في منطقة (الحربيات) التي شهدت أعمال خطف وابتزاز وعنف ضد السوريين لمجرد كونهم لاجئين بصرف النظر عن انتمائهم السياسي.
مدن الجنوب التركي المحاذي للمدن السورية (حلب- عنتاب) (أورفة- الرقة) (مرعش- القامشلي) كلها مدن تفيض بالتودد والاحتضان الشعبي للاجئين السوريين الهاربين من ويلات العنف في بلادهم، يدعمها توجه حكومي بالاهتمام المميز والتعامل الحسن معهم، وتقديم كافة التسهيلات لهم، بل والتغاضي عن دخولهم غير الشرعي إلى تركيا، وخروجهم منها تالياً، ومن أمام الحاجز الذي يحرسه (الجندرمة) التركي، ما ولد ارتياحاً كبيراً لدى السوريين الذي أضحت تركيا وجهتهم المفضلة حالياً بعد سوء المعاملة التي قوبلوا فيها في كل من لبنان ومصر (لاحقاً) وحتى الأردن والعراق.
غازي عنتاب، المدينة التوأم لحلب السورية، تشبهها في كل شيء من الناحية العمرانية، لكنها أصغر حجماً وأقل كثافة من حيث السكان، لكنها تحتل لدى قلوب العنتابيين مكانة مميزة، عنتاب.. شهدت نهضة عمرانية هائلة ومخيفة، في السنوات العشر الأخيرة، وتضاعف حجمها ثلاث مرات بسبب العناية التي أولتها الحكومة لمدن الجنوب المجاور لسوريا، لكن الوجود السوري في المدينة والذي بات يهيمن على أحياء برمتها، كافأ المدينة بإيداع نحو 10 مليارات دولار في مصارفها، وتزيد من نشاطها الصناعي والعمراني. وهو ما ينطبق على عشرات المدن التركية التي استقبلت السوريين وما يحملونه من خبرات وأموال.
يشاع في تركيا أن حكومة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان سوف تمنح السوريين في بلاده إقامات دائمة لمدة ثماني سنوات، ضماناً لبقائهم وعدم التعرض لهم قبيل الانتخابات البرلمانية العام المقبل، كما ينظر الأتراك إلى أشقائهم السوريين على أنهم المواطنون القادمون والمحتملون مع تصاعد أرقامهم وتأزم المسألة السورية، وهم لا يبدون تجاه ذلك أي انزعاج أو تخوف اقتصادي أو سياسي، فالشائع في تركيا أنه إن كانت الدول الأوروبية تعمل على إطالة الأزمة السورية للاستفادة من نوعية اللاجئين السوريين الذين تم تصنيفهم مؤخراً ضمن احسن مستويات موجات اللجوء بحسب المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، فما بال الأتراك الذين يعانون ضعفاً في الكثافة السكانية لا يستفيدون بدورهم من هؤلاء اللاجئين بعكس إخوانهم العرب الرافضين لوجودهم بينهم واستقبالهم في بيوتهم لاعتبارات سياسية تارة (مصر)، وعنصرية مذهبية تارة أخرى؟!
كاتب وباحث