يصعب ايجاد تفسير لخطف طيّار تركي ومساعده بعد خروجهما من مطار بيروت اذا لم توضع المسألة في اطار واسع اسمه quot;لبنان الساحةquot;. لم يعد لبنان غير quot;ساحةquot; يستخدمها النظام الايراني من أجل اثبات انه يمتلك أوراقا اقليمية وأن بيروت مدينة ايرانية على المتوسط وأن لبنان كلّه رهينة وليس ابناء الطائفة الشيعية الكريمة وحدهم.

لماذا استهداف تركيا في بيروت؟ الجواب بكلّ بساطة أن المطلوب الضغط على تركيا بسسب موقفها من النظام السوري المدعوم ايرانيا. فالنظام الايراني يعتبر معركة بقاء النظام السوري معركته، لكنه ليس قادرا على الدخول في مواجهة مباشرة ومكشوفة مع تركيا.
انها معركة حياة أو موت بالنسبة اليه. ولذلك، ليس صدفة التذرع بخطف لبنانيين داخل الاراضي السورية من أجل خطف الطيار التركي ومساعده في هذا التوقيت بالذات...أي في الوقت الذي يحقّق فيه ثوار سوريا تقدما في مناطق قريبة من حلب توّجت بسيطرتهم على مطار مينغ المهمّ من كل النواحي. انه مهمّ كمطار يستخدم في ارسال تعزيزات الى القوات الموالية للنظام، كما هو مهمّ بسبب نوع الطائرات الرابضة فيه ومعظمها طائرات هليكوبتر. اضافة الى ذلك، ان موقع مينغ مهمّ استراتيجيا كون الاستيلاء على المنطقة التي يقع فيها يساعد في قطع الامدادات عن الوية ومجموعات موالية للنظام تعمل في حلب وريف المدينة. يبقى هل يفيد ايران في شيء ممارسة ضغوط على تركيا انطلاقا من quot;لبنان الساحةquot;؟
ليس هناك لبناني يمكن أن يرضى بخطف لبنانيين في سوريا. عملية خطف مواطنين لبنانيين مدانة بكلّ المقاييس. لكنّ الاكيد أن ليس طبيعيا استغلال عملية الخطف للاساءة اكثر الى الوطن الصغير وعزله عن محيطه العربي وعن دولة مثل تركيا، هي من الدول النادرة، التي يستطيع اللبنانيون السفر اليها من دون تأشيرة.
المطلوب اذا معاقبة تركيا في لبنان وعبر لبنان...بغض النظر عن الضرر الذي يلحق بلبنان واللبنانيين. نتيجة ذلك أن العقاب الحقيقي عقاب للبنان، نظرا الى أن المطلوب في نهاية المطاف تاكيد أن لا وجود لدولة لبنانية أو لمؤسسات تابعة للدولة اللبنانية وان مطار بيروت تابع لسلطة quot;حزب اللهquot; المتورط مباشرة في الحرب التي يتعرض لها الشعب السوري.
بكلام أوضح، صارت الدولة اللبنانية تابعة للحزب الذي أقام دويلته داخل هذه الدولة وعلى حسابها. ما يتبيّن كلّ يوم هو أن الدويلة التابعة لايران أقوى بكثير من الدولة اللبنانية. بل أن الدويلة هي الدولة اللبنانية التي عليها أن تلعب دور quot;الساحةquot; أي دور التابع للمحور الايراني- السوري الذي يدار من طهران.
من يتمعّن في المعادلة القائمة بين لبنان وتركيا يكتشف أنّ لبنان لا يمثّل شيئا في هذه المعادلة، أقلّه بالنسبة الى تركيا ومصالحها المتشعّبة. هذا التقييم يأخذ في الاعتبار حجم الاقتصاد التركي وطبيعة العلاقات التي أقامتها الدولة التركية مع المجتمع الدولي، فضلا عن كون تركيا، الدولة المسلمة، عضوا أساسيا في حلف شمال الاطلسي.
بكل المقاييس، يعتبر لبنان الخاسر الاوّل في المواجهة التي فتحها خاطفو الطيار ومساعده. واذا وضعنا الموضوع الانساني جانبا، ليس ما يدعو تركيا، الى الاستجابة لمطالب الخاطفين، هذا في حال كان اطلاق المخطوفين اللبنانيين الموجودين في سوريا في يدها...أو كان لديها بالفعل أي نفوذ، من أي نوع، كان على الجهة الخاطفة.
نعم ان تركيا تتدخل في الشأن السوري. هناك من يعتقد أن تدخلها مفيد، وهناك من يرى، حتى بين معارضي النظام السوري، أن السياسة التركية خاطئة، خصوصا أنها صادرة عن حكومة، تتميّز بقصر النظر تكشف يوميا أنّ ليس في استطاعتها الخروج عن الخط العام للاخوان المسلمين.
ولكن تبقى الحملة على تركيا شيء والاساءة الى لبنان شيء آخر. فجريمة خطف الطيار التركي ومساعده لا تفيد لا في استعادة المواطنين اللبنانيين المحتجزين في سوريا ولا في تغيير الموقف التركي من الثورة السورية.
من نفّذ عملية الخطف يعرف ذلك جيّدا. هدف الخاطفين لا علاقة له اذا بتبادل مخطوفين. انه مرتبط أولا واخيرا بوضع ميليشيا مذهبية مسلّحة تابعة مباشرة لايران يدها على كلّ لبنان وعزله عن محيطه العربي. هذا كلّ ما في الامر. ما نشهده حاليا فصل آخر من عملية تصبّ في تكريس لبنان quot;ساحةquot; وذلك كي يكون الوطن الصغير مجرّد ورقة ايرانية تستخدم في صفقة مع اميركا أو اسرائيل متى دعت الجاجة الى ذلك...
ما حصل حلقة في سلسلة طويلة لم تبدأ البارحة. بدأت السلسلة بالتمديد لاميل لحود على الرغم من صدور القرار 1559 عن مجلس الامن وذلك كي يبقى لبنان تحت الوصاية الايرانية- السورية. اصبحت هذه الوصاية ايرانية بحتة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في العام 2005 واضطرار الجيش السوري الى الخروج من الاراضي اللبنانية. توالت الاحداث الكبيرة وتوالت الاغتيالات وفُرضت على لبنان حرب اسرائيلية صيف العام 2006 بغية تبرير احتفاظ quot;حزب اللهquot; بسلاحه. جاءت بعد ذلك عملية الاعتصام في وسط بيروت ثمّ احداث السابع من أيّار 2008 ، أي غزوة بيروت والجبل ثم تشكيل حكومة برئاسة نجيب ميقاتي. لم يكن الهدف من تلك الحكومة، التي جاء بها سلاح quot;حزب اللهquot;، بعد استقالة حكومة الوحدة الوطنية برئاسة سعد الحريري، سوى اذلال أهل السنّة والمسيحيين بعد تدجين الزعيم الدرزي وليد جنبلاط. هل من اذلال للمسيحيين أكبر من ذلك الذي تعرضوا له في حكومة نجيب ميقاتي حيث أصبح وزراؤهم من العناصر التابعة للنائب ميشال عون الذي ليس سوى اداة من ادوات quot;حزب اللهquot;؟
لا شيء يحدث بالصدفة في لبنان. ليس صدفة ان يأتي خطف الطيار التركي ومساعده في وقت تنصب الجهود على منع تشكيل حكومة جديدة برئاسة تمام سلام وتدمير كلّ مؤسسات الدولة بما في ذلك مؤسسة رئاسة الجمهورية.
ليس خطف الطيار التركي ومساعده سوى غطاء لجريمة ترتكب في حق لبنان واللبنانيين. انها حرب بكل معنى الكلمة على لبنان لا اكثر ولا أقلّ...