اغترب العراقيون منذ سنوات بوضع مختلف عن جيرانهم، عملية سياسية ولدت بتدخل خارجي أسقط نظاما يراه الكثير من العرب جمجمتهم، ويراه أكثر العراقيين بانه دكتاتور لا يمكن اسقاطه من الداخل، بعد ان تركت انتفاضتهم تذبح قبل عقد من ذلك التاريخ.
اغتراب موجع، تعرض خلاله العراقيون لأشكال من الحملات السياسية والإعلامية والثقافية، فضلا عن العنف تحت سقف المقاومة.
هذه البداية تختلف عن بدايات تشكل الدول العربية الحديثة بعد سقوط الخلافة بيد الإنكليز والفرنسيين، وقتها تساوى العرب وتشابهوا في واقعهم، لم يتخلف بعضهم عن بعض الا في التفصيلات، الكل خاضع للمستعمر. اما بعد 2003 فان العراق انفرد في وضع شاذ، وحالة لم يعتد العرب على ان يخوضها بلد واحد بمفرده.
غير ان 2011 فتح الباب امام تحول، اندلاع احداث quot;الربيعquot; العربي أشعر الكثير من العراقيين بان ما يجري فرصة لنهاية حالة الاغتراب، انطلاقا من رأي يقول: ان سقوط تمثال ساحة الفردوس سقوط لأولى قطع الدومينو في سلسلة الحكام العرب. ومع التدخل العسكري الغربي بموافقة عربية في ليبيا، لم يعد العراق حالة فريدة في الشرق الأوسط.
الواقع الجديد أخرج العراقي من تلك الغربة الى اتخاذ المواقف، الاحداث في المحيط الإقليمي باتت سببا جديدا في الانقسام. ربما اتفق الجميع في العراق على سقوط القذافي وبن علي ومبارك، لكن اختلفوا على سوريا والبحرين، والى حد ما على مصر بعد مرسي.
الطائفية في الغالب، تقف وراء الانقسام الجديد، خصوصا حول الحرب السورية والتظاهرات البحرينية. احتجاجات في الانبار ترفع اعلام الجيش الحر، واخرى في الجنوب تطالب بدعم الحراك في البحرين. عراقيون يقاتلون في الجانبين السوريين، حسب الولاءات...
وثمة رؤى اخرى بعيدة عن تلكم الخلفيتين، خلقها احيانا الخوف من تنظيم القاعدة الذي أصبح يمتلك مساحة حرة من بادية الشام الى صحراء العراق، وأحيانا الخلفيات الإنسانية والمواقف المبدئية تجاه الدكتاتوريات، او مواقف مناهضة للقوى البديلة عن الأنظمة الحالية باعتبارها بدائل دينية وإسلاما سياسيا...
ومع طبول الحرب في سوريا تبرز مواقف منقسمة أيضا، طائفية وإنسانية وانطلاقا من ثوابت سياسية او مقارنات بالحالة العراقية... محصلة المواقف ان العراق لا يمتلك رؤية شعبية او نخبوية موحدة فضلا عن الرؤى السياسية المنقسمة أصلا.
السؤال الذي يطرح نفسه، رغم كل ما يقال، ألم يمر العراق تقريبا بأغلب ما مر به السوريون خلال العاميين الماضيين، اذن لماذا يبدو غير متفاعل مع خصوم النظام، ويتمنى الكثيرون بقاءه في الكثير من الأحيان؟
الخلفيات الطائفية لوحدها لا تكفي لتفسير كل المواقف، ولا الخلفيات العقلانية او الثوابت السياسية المزعومة والولاءات الإقليمية بين إيران والعرب وتركيا. لم تعد الدكتاتورية والحصار والحروب تمثل الأولوية في الذاكرة العراقية، القاعدة والإرهاب والفساد السياسي، المعاناة القديمة العميقة والتي خلقت حاضرنا الراهن لم تعد بذات الوضوح في ذاكرتنا، كما هي عادة الشعوب إذ تنسى.
كثير من العراقيين، الشيعة تحديدا، ينظرون لأحداث سوريا عبر جبهة النصرة وquot;دولة العراق والشامquot;، الفوبيا الرئيسية لديهم، كل الجوانب الأخرى مغيبة او لا تنافس هذه النقطة المركزية، رغم ان تنظيم قاعدة ليس القوة الوحيدة ولا القصة الفريدة، وانه طرف في المعادلة السورية ولا يمثل المشهد الكامل.
في الجانب السني من العراق تسير الأمور عكس ذلك، فقدان حكم طويل وتمييز يعانون منه في الواقع الجديد، ما جعلهم يتناسون كل المخاطر الأخرى ويركزن النظر على نقطة ان نظاما علويا مجاورا لابد ان يزول ليحل مكانه نظاما سنيا يعزز التطلعات.
السياسة تلعب دورها، غير انها حلقة ضمن حلقات متعددة اخذت طريقها لواقع العراق وعلاقته بمجريات الحدث الإقليمي الجلل، وانقلابات المنطقة الدراماتيكية.
في الرؤية للواقع المصري الراهن، بدأ المشهد العراقي واحدا حتى حكم الاخوان. لا يخفى ان الكثير من العراقيين ان لم يكونوا الأكثرية أعجبوا كبقية العالم العربي بالجموع المتضامنة التي خرجت مطالبة بإسقاط حكم الاخوان.
الطائفية هذه المرة أيضا لعبت دورها، الإسلاميون السنة وقفوا بالضد مما جرى، ودافعوا كبقية الإسلام السياسي العربي عن quot;الشرعيةquot;... أغلب الشيعة ابتهجوا، البعض رأى في نهاية مرسي ثمنا لمقتل الناشط الشيعي المصري حسن شحاته في اخريات أيام حكمه، ويرى اخرون ان سقوط حكم الاخوان هو خروج لمصر من دائرة الصراع الطائفي الذي دخلته اثناء حكمهم، حركات الإسلام السياسي الشيعي واجهت الامر بلا أبالية، رغم ان بعضها كان الى وقت قريب يرى فكر الاخوان من ضمن مرجعياته.
وانقسم العلمانيون بين تيارين، أحدهما سرّ، ورأى ان الإسلام السياسي كان لابد ان يواجه المصير الذي لقاه في مصر، واخر وجد ان ذلك يتناقض مع أسس حقوق الانسان وحق التظاهر والاعتصام ويؤدي الى صعود العسكرتارية التي لعبت الدور الكبير لعقود طويلة في تخريب الجمهوريات العربية، وسيدفع الإسلام السياسي للعنف الشبحي.
العراق في نظرته للإقليم يعكس واقعه الداخلي، صراعاته ومخاوفه وآماله، يصعب التمييز بين الداخل والخارج، مع الإشارة الى ان الأوساط المثقفة والإعلامية وبعض الناشطين يمتلكون تصورا أفضل من سواهم، ربما لأن الذاكرة في هذه الأوساط ليست قصيرة ولا مقطوعة، او انها تتجه لتكون أكثر نضجا من السابق.
الذهنية العراقية لم تعد أسيرة لنفس الذهنية القومية السابقة، عناصر أخرى ظهرت خلال السنوات الأخيرة تحكمت بالمواقف الخارجية وانماط العلاقة مع الاخر العربي والإيراني والتركي... الخارج ينعكس في الداخل، والقوى الإقليمية تلعب دورها، وما تزال المشاريع الوطنية مفقودة.
التعليقات