تلعب المعتقدات المجردة في العراق دورا يفوق المتعاد، فيما تصاغ المواقف في البلدان المتطورة على ضوء المتحقق الملموس. و في اوربا على وجه التحديد لا يمكن التفكير بإعادة انتخاب شخص عانى المواطنون في زمنه من انعدام الامن و الخدمات و الفساد و اقصاء الكفاءات و شق المجتمع أو من جعل السلطة حكرا على حكم العوائل لعقود متتالية.. لا بل إن أقل بكثير من واحدة من هذه الامور تكفي لاقصائه من مسرح السياسة الى الابد. و في مثال واحد من العديد من الامثلة التي تمر علينا كل يوم، تم اقصاء وزير الماني شاب واعد، ذكي و نشيط لأنه في رسالة الدكتوراه لم يضع هوامش تشير الى المصدر و اعتبر الامر تزويرا.
أكثر الناس انانية و تضليلا للمواطنين في العراق هم رجال الدين. انهم معادون للحداثة بمعني الكلمة. و لم يكن شأنهم في اوربا بأفضل من ذلك. و لكن الفرق هو أن المثقف الأروبي اسس النهضة بتأسيس استقلاله و اخلاصه للعلم فقط، فيما سار جل مثقفينا خلف رجال الدين مكررين أفكارا و ممارسات بالية. و في كتابه المثير للجدل quot;المانيا تلغي ذاتهاquot; يقول زاراتسين أن اوربا الحديثة بدأت حين ظهر المثقف المستقل.
و في بلدنا لم يؤسس مثقفونا لخطابهم الخاص المترفع عن دعوات الطوائف و الانغلاق القومي. ففي بلد متعدد القوميات و الطوائف لا يمكن أن يكون موقف ما شاملا للقومية أو الطائفة برمتها.
فقد صرحت شخصية سياسية كردية و قيادي سابق في حزب ماركسي عراقي أن انقلاب 8 شباط عام 1963 في العراق كان وبالا على الكرد ووبالا على اوساط واسعة من العرب. و تحدث كاتب آخر عن موقف البرجوازية السنية العراقية من داعش مميزا بين موقفها و موقف عموم الطائفة. هذان مثالان للانتقائية في مجال المفاهيم في المجالين القومي و الطائفي و بهما يصار الى اللجوء الى ما يخدم الغرض، مؤقتا و عرضا، دون اعتماد ذلك منهجا منسجما.
إن قومية ما، كما طائفة ما، تتكون من طبقات ذات مصالح تتقارب و تتباعد حسب مصالحها و هذه المصالح تكون عابرة للطوائف في مطلق الأحوال و للقوميات في مرحلة من تطورها و يتوافق معها بناءٌ فكري و طرائق سلوك محددة. فإذا ما آمنا بذلك (و من حقنا أن لا نفعل) فإنه حينئذ سينطبق على السنة كما على الشيعة، على الأكراد كما على العرب، و اذا لم نؤمن به فسيكون من الخطل استعماله برهانا هنا أو هناك تعسفيا.
الفكر الطائفي، كما الفكر القومي يحاول طمس هذه المقاربات حسب مصالحه و يسعى للتأسيس لشيء مختلف يُصار فيه الى طمس التناقضات داخل الطائفة صبغهما بلون واحد.
المصالح الطبقية حسب ماركس هي التي تحدد سلوكها الجمعي. و هذا يجب أن يؤخذ على أنه ميل أساسي. و لكي لا نقع في التقسيمات التجريدية المتعسفة نشير إلى أن هذا الميل معرض لميول أخرى تؤثر على ظهوره و صفاءه و لتأثيرات مضادة و مقاومة مستميتة، كما سيرد من أمثلة في الآتي من مقالنا.
على أن من المعروف أن الفواصل بين الطبقات و الفئات الاجتماعية تتوفر على مناطق رمادية بين هذا و ذاك و استثناءات فردية. فقد اشار كاوتسكي إلى أن الحديث عن الاستغلال الرأسمالي لا يمنع أن يكون رأسماليا فرداً طيبا و يساعد العمال و لكن الحديث عن الرأسماليين انما هو حديث عنهم كبطقة اجتماعية و عن موقعهم في عملية الانتاج موضوعيا.
طور ماركس أفكاراً كانت موجودة قبله عن الطبقات على ضوء أمثلة تاريخية. ففي العام 1871 شنت بروسيا حربا على فرنسا هزمت فيها الاخيرة، و تسببت الهزيمة، كما كل الهزائم في التاريخ، بنشوب ثورة شارك فيها بشكل رئيسي العمال و الأقسام السفلى من الطبقة الوسطى عرفت بثورة الكومونة.
تضامن العمال الألمان (ألمانيا هي ما صارت اليه بروسيا بعد الحرب) مع نظراءهم الفرنسيين و تناست حكومة بسمارك البروسية خلافاتها مع (العدو) و ساندت تيير رئيس وزراء (الدولة العدوة) فرنسا في القضاء على الكومونة.
في متحف حرس الحدود في موسكو كانت هناك امور كثيرة مثيرة للاهتمام و التأمل، منها قنبلة هائلة. يروي لنا موظف المتحف، انها القيت اثناء الحرب العالمية الثانية من طائرات المانية على مركز موسكو و لم تنفجر و حين فككها خبراء المتفجرات و جدوها خالية من المواد المتفجرة و بدلا من ذلك و جدوا أقصوصة ورق كتب عليها من قبل عمال مصنع الاسلحة في المانيا quot;نحن معكم أيها الاصدقاءquot;.
لا شك ان مثل هؤلاء العمال كانوا اقلية و كان الكثير من العمال جادين في صنع سلاح ضد عدو هو ليس عدوهم، لأن الحرب كانت حرب اعادة اقتسام النفوذ. و لكن أليس الامر نفسه ما يجري عندنا في العراق حين يضلل ابن القومية و ابن الطائفة فيُقال له : لا تنتقد و لا تحارب الفساد و لا تطالب بالخدمات و انتخب من اشبعوك ضيما و احتكروا السلطة و جعلوها حكرا على العوائل لأن العدو القومي (كذا) أو العدو الطائفي (كذا) قادم؟
في موضوع آخر و في نقاشه عن المشكلة اليهودية دعا ماركس اليهود الى الاندماج بمجتماعتهم رافضا ان يكون لهم تكوينهم الخاص المنفصل عن المجتمع. هنا يورد ماركس سؤالا ثم يستشهد بجواب برنو باور عليه، ادعو القارئ لتفحصه بتمعن لما له من صلة بعراقنا و فوضى المفاهيم فيه:
اليهود الألمان يرغبون في التحرر. أي نوع من التحرر يرغبون فيه؟
اجابهم برونو باور (على ذلك): quot;لا أحد في ألمانيا متحرر سياسيا. نحن انفسنا لسنا أحراراً. كيف اذن نستطيع تحريركم؟ ستكونون أنانيين اذا ما طالبتم بتحرركم الخاص و لأنفسكم كيهود. كألمان يجب عليكم العمل من اجل التحرر السياسي للألمان، أو كبشر العمل على تحقيق الحرية للكائن الانساني، و عليكم أن تشعروا بأن اضطهادكم ليس استثناءا من القاعدة، بل بالعكس على أنه تأكيد لهاquot;.
هنا ناقش برونو باور اليهود على انهم قبل كل شيء ألمان، لأنه وجد أنهم يستلون أنفسهم من المجتمع برمته و يعتبرون انفسهم قبل كل شيء يهودا باحثين عن خلاصهم الخاص .
و هكذا نجد أنه في بلدٍ ما سيكون من المحال ان يحصل مكون ما على حريته دون حرية المكون الآخر طالما بقي يعيش في الإطار الوطني. هذا الفصل هو ما سعى إليه التصريحان في صدر المقال. فهل يحق لنا الحديث عن تكوين طبقي للسنة يحدد مواقف كل طبقة من قضية ما، دون ان نتحدث عن أن الشيعة، كما الأكراد هم الآخرون يتكونون من طبقات اجتماعية ذات مصالح مختلفة و أفكار خاصة تميزها عن عموم الطائفة و لها من جهة أخرى مقاربات مع شبيهها على الطرف السني أو أي طرف آخر؟ و هل أن هناك برجوازية شيعية أيضا أم لا؟ و اذا كان الجواب نعم، ما هو موقفها من منظمات و ميليشيات ارهابية شيعية؟
من الطبيعي ان يحاول رجال دين طمس الفوارق الطبقية في طائفة ما، و يمنعون مكوناتها الاجتماعية من الاندماج مع مثيلاتها في الطائفة أو الامة الأخرى، لأن هذا ما يحقق لهم ارباحا خرافية، و لكنهم سينجحون بقدر ما يتوفر مثقفون يصبون الماء في طاحونتهم التي تستمد ماءها من تاريخ سحيق و تقوم على تخويف الطائفة من الطائفة الأخرى و تنادي بأفكار لحمتها و سداها أن الطائفة منسجمة و انها ذات مصالح موحدة، و هي تمثل مصالح الكل: الفقير و الغني، الفلاح و الاقطاعي، العامل و الراسمالي.
كيف نجح الطائفيون و القوميون في ذلك في حين فشل هذا المسعى في اوربا؟ يحدد الجواب موقف المثقفين، الذين تحولوا الى طائفيين أو قوميين منغلقين.
يجعل الفكر الطائفي انتماء الفرد الى الطائفة هو الهوية ( ماركسي، علماني، مؤمن، ملحد، فوضوي، عبثي، طبيب، فلاح، ناهب، منهوب، سارق، مسروق، فاسد، نزيه... الخ) كل هذه و غيرها مما لا يعد و لا يحصى من الفوارق البديهية يطمسها الفكر الطائفي في اطار الطائفة و يصر على أن الجميع يجب أن يعملوا في إطار الطائفة و لمصلحتها. الفكر القومي يفعل الشيء نفسه.
ليست المحاكمة النظرية التي اوردناها فيما سبق وحدها التي تدحض ما ذهب اليه السكرتير السابق بل الوقائع أيضا. ففي وثيقة سياسية قل نظيرها نضجا صدرت في اواخر الستينات حدد مؤتمر اقليم كردستان للحزب الشيوعي طبيعة الثورة الكردية في فترة انطلاقها الاول في عام 1960 على انها حركة مثلت في جوهرها مصالح الأغوات الأكراد هدفها الوقوف ضد قوانين الاصلاح الزراعي و اسقاط حكومة عبد الكريم قاسم التي قامت بإصلاحات اجتماعية عميقة و روى مقاتلون اكراد أنهم قد احتفلوا بنجاح انقلاب الثامن من شباط عام 1963 باطلاق النار في الهواء. و يذكر السكرتير الأول الى ما هو مناقض لتعميمه، حين يشير الى ان القيادة الكردية حينذاك هنئت بوقوع الانقلاب، كما أن مفاوضات تمت بين الانقلابيين وقادة في الحركة الكردية قبل سقوط قاسم للحصول على الحكم الذاتي كثمن لدورهم المرتقب في إسقاطه و لكن الانقلابيين كما يعرف الجميع تنصلوا و شنوا حربا شعواء على الشعب الكردي. فكيف و الحال هذه يكون انقلاب شباط ضد الأكراد و بعض العرب؟؟!! كان عراب التخطيط و التنفيذ لإسقاط قاسم هو شاه ايران الذي امتلك نفوذا على الحركة الكردية.
و الحق أن انقلابيي شباط ما قيض لهم أن يحققوا انتصارا لولا الحركة الكردية و فتوى السيد الحكيم و موقف رجال الدين الشيعة من قوانين الاصلاح الزراعي و مجموعة الاجراءات الثورية التي قام بها قاسم. بل إن العداء لحكومة قاسم تجاوز كل انواع العداوات، فقد شن السيد محمد الحسيني الشيرازي في كتابه quot;تلك الأيامquot; هجوما تميز بالافتراء و الاكاذيب ضد حكم قاسم. رجال الدين السنة فلم يكن موقفهم افضل و لكنهم كانوا قطعا اقل تأثيرا بكثير لانهم لم يمتلكوا اي نفوذ و لم يتوفروا على قيادة موحدة نافذة.
إن المفهوم الطبقي هو النقيض الكامل للفكرين الطائفي و القومي، انه يفند ما يذهب اليه فكر طائفي يسعى الى اختيار ما يشاء من مفاهيم تلائمه كما يختار المتبضع سلعة من بقال.
الأمة و حق تقرير المصير
اذن هذه هي أمثلة عن المشتركات العابرة بين الفكر القومي المنغلق و الفكر الطائفي في العراق. انها عابرة لانها تتعلق بظرف محدد يستدعي تكوين مواقف مشتركة مؤقتة ..اما على المدى البعيد فإن الفكرين القومي و الطائفي لا يتعايشان.
و مما يفرق بينهما ان الأكراد في العراق أمة و لهم حق بتقرير المصير، و لقد اختارت القيادة الكردية أن ممارستها لحقها في تقرير المصير يمر بتحالفها مع سلطة طائفية. فهل يمكن لهذا أن يخدم القضية الكردية و حقوقها الاساسية؟