منذ ان دأبت الولايات المتحدة على ترسيخ فكرة " الفوضى الخلاّقة " على اجزاء واسعة من الوطن العربي& المبتلاة بالدكتاتورية والتخلّف في مطلع الالفية الثالثة وبدأت العمل على زرع بذورها في العراق وسوريا ومصر ؛ فاختارت أول الامر التربة الخصبة& لأكثر الدول العربية ديكتاتوريةً واعتى الانظمة خنقا للديمقراطيّة ورسمت خارطة طريق لشرق اوسط جديد تحقيقاً لنبوءة السياسي العجوز العتيد "زبغينيو بريجنسكي" والذي دعا قبل اربعين عاما الى تفتيت الشرق الاوسط وشرذمته ؛ حيث قال ان هذا الشرق الاوسط عبارة عن مكوّن من جماعات عرقية ودينية متباينة لكنْ يجمعها اطار اقليمي ونريد ان يكون هناك شرق اوسط آخر يتحول الى كانتونات عرقية -- طائفية يجمعها نظام كونفدرالي هزيل ويعمل على تشتيت الطوائف والفرَق والأعراق ليسهل تصفية أية فكرة قومية او دينية توحيدية قد تظهر لاحقا وعلى هذا الاساس يمكن لإسرائيل ان تعيش في المنطقة بأمن واطمئنان وسط هذه الكيانات الهزيلة المتفرّقة اضافة الى سهولة حلب ضرعها الوافر من النفط والخيرات الهائلة الاخرى
ولنا ان نتساءل؛ لماذا تلجأ الولايات المتحدة الى هذه الاجراءات والخطط البعيدة النظر وتحاول بكل جهدها الى تغيير الخارطة السياسية للشرق الاوسط والوطن العربي بالذات؟؟ والتي بدأت بالعراق لديكتاتوريته المفرطة وتهديداته المتكررة حتى يسهل قبول هذه الفوضى والاقتناع بذرائعها ومبرراتها، وفعلا نجحت بإزاحة اعتى انواع الديكتاتورية الصدامية في الشرق الاوسط وهلّل لها الكثيرون اول الامر
وحالما استقرّ بها المقام ؛ عملت على ترسيخ الطائفية وفرز المكونات الحاكمة معها ثمّ اشتدّ أوارها على تأجيج ظاهرة الاقاليم من خلال اذنابها الاحزاب السياسية التي تعيث ببلادنا تفرقةً وتشتيتاً من خلال الاستعانة برجال دين طائفيين انعزاليين لايعتصمون بحبل الله وجلّ همهم التفريق مخالفين بذلك أمر الله& بالتآصر والتوحّد ضمن عراق واحد لتحقيق مكاسبهم الخاصة ورجال قبائل تلهف قلوبهم للأوراق الخضر ولا تنبض حبّا لبلادهم وكلّ ماعليهم هو توسيع دائرة الصراعات وإذكاء النزعات المذهبية لرعاياهم غير المدركة والغارقة بالتجهيل ؛ والمؤسف فقد اصطف معهم زمرة من المثقفين الذين بدأوا يلوكون مصطلحات الفيدرالية والكونفيدرالية لترويجها في سوق السياسة العاهرة الذي فتح ابوابه لمن هبّ ودبّ من سياسيي الغفلة والناطقين الرسميين لهذه الفئة او تلك بمعونة فضائيات رخيصة وصحف صفر وتظاهرات ملمومة جرّاء مقابل مادي لتجميع انفار من المنتفعين لقاء دراهم معدودة ومن الجهلة والمغسولة أدمغتهم او ترتيب اعتصامات ومنابر مشبوهة تدعو الى التفرقة واستحالة التعايش ، يتحركون بإشارة من اصابع اليانكي الاميركي جو بايدن ذي الرحلات المكوكية بين الحين والآخر من بغداد الى اربيل وهو يخطط كيفية تنفيذ الخطة التقسيمية (س) والخطة الاخرى (ص) ويلتفّ حوله سياسيون منتفعون وزعماء محليون من رجال الدين والقبائل لاستلام المقسوم جراء الترويج لخططه واشاعة ان العراق بلدٌ مصطنع لابدّ من تقسيمه وكأنّ الولايات المتحدة موغلة في جذور التاريخ وهي من اسست حضارة سومر وبابل وآشور وأكد وشيّدت زقورات أور وأنشأت مكتبة بانيبال وكتبت القوانين في مسلّة حمورابي وأنهضت عاليا جنائنها المعلقة
ويتناسى زبانية البيت الابيض كيف تمّ اصطناع ولمّ شتات اميركا بولاياتها التي تفوق الخمسين ولاية بدءا من شراء اراضٍ شاسعة تقدر مساحتها حوالي مليوني كيلومتر مربع من فرنسا (ولاية لويزيانا بكاملها ) في عهد توماس جيفرسون عام /1801 اي مايعادل 15% من مساحة اميركا نفسها في صفقة استحواذ مساحات شاسعة وإلحاقها بأميركا وهي الولايات الحالية التي ضُمّت اليها : آركنسو وميسوري وآيوا وأوكلاهوما ونبراسكا وكانساس وأجزاء من مينيسوتا ، فهل العراق هو البلد المصطنع ؟ ام الولايات المتحدة التي مازالت طفلة رضيعةً لاتكاد& تحبو وفق اعمار الحضارات الموغلة في القدم مثل بلاد أوروك التي نبتت فيها اولى الحضارات
وهل علينا تذكير الاميركان ايضا بان نصف مساحة ولاية كاليفورنيا كانت مكسيكية واقتطعت من بلدها الامّ ناهيك عن تكساس التي سلبت عنوة وضُمّت الى الولايات المتحدة ، وهل علينا ان نوفي الكلام اكثر فأكثر ونقول ان الآسكا قد تمّ بيعها الى اميركا من قبل روسيا ؛ وما على القارئ الاّ ان يحدد من هي الدولة المصطنعة ومن هو البلد الاصيل العريق الذي تريد الولايات المتحدة تقسيمه !!
ويبدو ظاهريا ان اميركا التي نهضت عاليا فوق جماجم سكّانها الاصليين من الهنود الحمر وتنظيم هجرات الاقوام السود من افريقيا للعمل على بناء عالمها الجديد بالسخرة والاستعباد تريد ان تعلمنا لعبة التقسيم وان بلادي اضحت قابلة للقسمة على ايّ رقم إقليمي تشاء !
فالعالم المتحضّرالان يتطلع الى التوحيد مثلما نرى في الاتحاد الاوروبي الذي قاربت دوله المتحدة على الثلاثين دولة كقوة اقتصادية لايستهان بها ،رغم تعدد لغاته وأعراقه ، فعلى اية معايير يزن الاميركان والاوربيون الموازين ، واية قسمة ضيزى يقتسمون ؟!
يريدون دولاً قاريّة لانفسهم وكيانات عريضة تملأ الارض وتتسع بنفوذها وقوتها لتصل الى اقصى تخوم المعمورة لتكتسح العالم كلّه ويستخسرون في بلادنا الصغيرة ان يلتئم شعبها بقومياته التي لاتتعدى اصابع اليد الواحدة وبمعتقداته التي تعدّ ضئيلة جدا ايضا فيما لو قورنت ببقية دول المعمورة ، وتراهم يتغافلون ان العالم اليوم يتجه الى خلق كيانات دولية تتسم بالكوننة في زمن الانصهار والتقارب والالتحام الحضاري والفكري
لايغيب عن بالنا ان هناك عدة اسباب لترسيخ هذه الفكرة وأوّلها وفرة النفط في تلك المنطقة باعتباره المحرّك الرئيسي للآلة الأميركية والأوربية الاقتصادية وثانيّها ؛ العمل على اضعاف بلدان المنطقة لاجل السيطرة عليها وبالتالي فرض ماتريد من سياسات تخدم مصلحتها وثالثها وهو الاهمّ ؛ المحافظة على الوجود الاسرائيلي الذي تعتبره الولايات المتحدة والغرب الحليفَ الرئيسي وربما الابدي لأوربا واميركا . وربما هناك اسباب اخرى لاتقلّ اهميّة عن الاسباب التي ذكرت آنفا وهي ان منطقتنا تقع على تقاطع طرق العالم القديم ومعْبراً مهماً مما يتيح للولايات المتحدة تهديد التنين الصيني باعتباره المنافس الابرز والقوة النامية بشكل مهول في آسيا والشرق عموما
ان مشاريع الولايات المتحدة وتطلعاتها المستقبلية لاتهدأ ولاتكلّ ابدا والشغل الشاغل لها ان تضع الحجر الاساس لسياساتها الجديدة في تشكيل الربيع العربي على هواها& بمعونة اصدقائها وحلفائها في المنطقة وفي اوربا واذا اقتضت الضرورة ان تقوم باستخدام ذراعها العسكري وجيشها في تغيير الانظمة فإنها لاتتحرّج ابدا حتى وان كان تحرّكها يتم ّ بدون ايّ غطاء او شرعية دولية مثلما حدث في التغيير العاصف والغزو الهمجي الذي شنّته الولايات المتحدة في التاسع من نيسان عام /2003 لتغيير نظام الحكم البعثي الدكتاتوري الذي صرع وصدع شعبنا بمطرقته ولكن سندان اميركا والدول التي تحالفت معها كان أكثر صدْعا
هذه هي الولايات المتحدة التي يراها البعض ممن لايغور عميقا في متاهات دروبها بانها محررة الشعوب وزعيمة الديمقراطية والحريّة وهي المنقذ للشعوب الرازحة تحت ثقل الدكتاتوريات ، لكن من يشمّ& النفط ويسيل لعابه للاستحواذ على هذا الذهب الاسود سيرى امريكا باقية مادام هناك نفط تزكم رائحته الانوف وتنتشر زناختُه بين ظهرانينا .
أبهذا الشكل تتحول النعمة الى نقمة ؟؟ .
لاتتعجلوا ايها العرب العاربة والمستعربة فلعبة التقسيم آتية اليكم لاريب فيها مثلما اقتطع جنوب السودان الغنيّ بالنفط وصار دولة في لوائح الامم المتحدة ؛ سينسلخ اقليم كردستان العراق بعد بضع سنوات وربما أقل ونبكي على جبال العراق التي ستميد وتهدّ صخورا متناثرة على رؤوسنا بفعل ديناميت التقسيم وستتجزأ سوريا حتما بقاعا صغيرة هنا وهناك ولاينجو لبنان الصغير الجميل من احياء متقطعة مستقلّة اسمياً لهذه الطائفة او تلك ومن ثم تَحطّ هذه الخطط التقسيمية على ليبيا الممتدة الاطراف لينشأ في جبلها الاخضر اقليم " برقة " وفي صحرائها أقليم " سبها " واقليم طرابلس وبنغازي ولايهمّ ان كان سكّان ليبيا كلهم عرب متجانسون مسلمون ويدينون مذهبا واحدا وهو المالكي فالتجزئة تليق بالتحضّر الفيدرالي والكونفيدرالي الذي يلوكه سياسيونا العتاة بأسنانهم حينما يلفظونه وفقا للكنتهم الليبرالية
كم كان رهاننا خاسراً حين عوّلنا على " منقذتنا " أميركا زعيمة الحريّة والديمقراطية وراعية التقسيم بنفس الوقت.

[email protected]

&