من القضايا التي يحتدم النقاش حولها في الدول النامية تلك المتعلقة باختيار الأشخاص للمناصب العامة والوظائف الحكومية. إن سبب بروز مثل هذه القضايا على السطح هو الزيادة المطردة في عدد المتعلمين والجامعيين والتي لا تتناسب مع التطور الاقتصادي ومستوى الانتاجية في معظم الدول النامية، إضافة إلى تجذر مفهوم خاطئ في ذهن أولئك المتعلمين بان كل منهم مؤهل للقيادة ويستحق منصب أجدر من الذي يشغله حاليا، إضافة إلى انتشار فساد الذمم عن طريق تكوين المجموعات والشلل والتي يكون همها الأول المحافظة على امتيازاتها ومواقعها ولو على حساب الصالح العام، لان الوطن لديهم عنوان ومزرعة وفندق. لا يعيب الدول النامية كثرة القضايا والمسائل التي يحتدم النقاش حولها، ولا يقلل من قدرها الاعتراف بنواحي الخلل والقصور في بنيانها ومؤسساتها، بل ما يعيبها حقا خروج النقاش عن أطره الصحيحة وتحويل القضايا العامة إلي مطايا للمنافع الشخصية.

إن السؤال الرئيس في هذا المجال يتعلق بالمعايير التي على أساسها يتم التعيين أو تمنح الترقية. الأساس النظري موجود كقاعدة عامة وهو أن الكفاءة هي المعيار الوحيد والحاسم في دولة لها بنى مؤسساتية وتحكمها أطر تشريعية وضوابط قانونية. أما التطبيق العملي فيصطدم بالضغوط والاملاءات الصادرة عن الولاءات العائلية والقبلية وعن النظرة المنفعية لمفهوم الدولة والمؤسسات. فأصحاب النظرة المنفعية يكون ولائهم مرتبط بمدى المنفعة المادية المتأتية من الوظيفة الحكومية وفي اللحظة التي تنقطع فيها هذه المنفعة يتحول أصحاب هذه النظرة إلي كواسر تفترس الجميع. ونتيجة لذلك فان الكفاءة لا تأتي في المرتبة الأولى في سلم التقدير، حيث لا بد من تحقيق العديد من الشروط وبعدها ينظر في أمر الكفاءة. فالإرث الموجود في الدول النامية أقوى من المفهوم المؤسسي، والنظرة إلى الدولة كميراث لا بد من تقسيمه وفق الاعتبارات القبلية والمناطقية وغيرها يفوق النظرة الحديثة بان الدولة للجميع وتعتمد على الجميع وبالتالي فان الإنسان الكفؤ لا بد وأن يحقق فوائد في مؤسسته يعود ريعها على الجميع.

إن مقياس الكفاءة ليس مقياسا مطلقا بل يرتبط بمبدأ المحاسبة والتي لها اتجاهان. وهذان الاتجاهان هما: مكافأة المتميز ومحاسبة ومعاقبة المهمل والمقصر. وتعتمد الكفاءة على مبدأ آخر وهو مبدأ الإحلال والذي يعمل كإطار زمني يهدف إلى الاستفادة من الخبرة المتراكمة في تدريب القيادات الشابة وتجديد دماء المؤسسات والشركات. فمهما كان المسؤول كفوءاً فان عطاؤه يصل القمة في غضون سنوات محددة، يبدأ بعدها هذا العطاء بالتناقص، ويترافق ذلك مع أمراض السلطة، حيث يجد القادة أنفسهم أسرى النواب والمساعدين والمستشارين الذين ساعدوهم في الوصول إلى المنصب. ولذلك لا بد من إفساح المجال للدماء الشابة لتحل محل القيادات القديمة والتي تتحول إلى مجال عمل آخر قد يكون الاستشارات أو التدريب أو غيرها.&

يرتبط معيار الكفاءة ارتباطا وثيقا بمبدأ المنافسة وتساوي الفرص لأبناء الوطن الواحد. فكلما اتسع نطاق المنافسة على أرضية تساوي الفرص كلما كان المعيار المرتبط بالكفاءة اكثر عدلا، حيث يؤدي ذلك إلى وضع الرجل المناسب في المكان المناسب لقيادة المؤسسة وليس رئاستها. فالقيادة تعني المشاركة في المسؤولية والديمقراطية في اتخاذ القرار وتحقيق العائد الاقتصادي المرجو والمخطط له. كذلك، فإن القيادة الصالحة ترتكز على القيم النبيلة والممارسات الاخلاقية والتضحية من أجل المصلحة العامة.أما الرئاسة فتولد الانفراد في القرار وسيادة مفهوم الديكتاتورية وتنمي الولاء الشخصي ليحل محل الولاء للمؤسسة والدولة. إن الناتج الرئيسي هو تقهقر المؤسسة كوسيلة إنتاجية وبدل أن تكون مدماكا صلبا في البنيان الاقتصادي تصبح هماً وعبئاً ينتج عنها في النهاية دين يتحمله المواطن. إن مسلسل الخسائر في الشركات المملوكة للدولة في كثير من الدول النامية أدى إلى تحميل المواطن دينا شارك هو في تراكمه عن طريق الضغط على أصحاب القرار لتحقيق مكاسب فردية. ولذلك، لا بديل عن مقياس الكفاءة والتنافس في الإدارات والمؤسسات المختلفة في عصر الانفتاح والتنافس الاقتصادي والعولمة والتي هي في نظري الجديد الذي افرزه تطور وسائل وأدوات الإنتاج في القرن الحادي والعشرون والذي لا مفر للدول منه.