فوجئت صباحا وأنا أتصفح بريدي بعلم جديد قد يضاف يوما لكوكبة أعلام الأمم المتحدة التي يزداد عددها مع تقدم السنوات منذ الديباجة الأولى عام 1945 على أثر كارثة الحرب العالمية الثانية. إنه العلم المقترح لأقليم البصرة الذي يتم التبشير به على مراحل.

الناس والبشر عادة يعلنون موقفهم من الحياة بعد الكوارث مع أن حسابات الوعي بين صفوفهم تقرأ الغد وتحاول أن تحذر الناس منه لكن حجم الشرور في النفس البشرية أكبر من حجم الحب في ذات النفس"وإن النفس لأمارة بالسوء – قرآن كريم"

وها هي حروب أقسى من الحربين العالميتين الأولى والثانية تندلع في العالم وتتركز في منطقة الشرق الأوسط كمساحة للمعركة والعراق أكثر ساحاتها سخونة، فيما هي عالمية التخطيط والتنفيذ والنهب والقتل والسطو والإحتيال وممارسة كل أشكال التنكيل، تنكيل وتقتيل بطرائق لم تنتم يوما للعنصر الإنساني، إذ لم يجرؤ أحد من مصممي ومنفذي الحربين العالميتين الأولى والثانية على بيع حسان القوم في سوق العبيد، ولم يجرؤ أحد من مصممي ومنفذي الحربين العالميتين الأولى والثانية على نحر أطفال لم يفقهوا من الحياة شيئا أن يغيروا إنتماءهم الديني وفي رفضهم يتم نحرهم. ما يعني ذلك بأن تقسيم مناطق النفوذ بعد الحرب العالمية الأولى لم يقم على هكذا نمط من الجريمة، بل أن جريمة العصر المتمثلة بالجيش المفتعل من مرضى السادية والماسوشية "داعش" هما سمة الحرب العالمية الثالثة التي أدت وتؤدي إلى تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، حتى سرى الحيف على المجتمعات الصغيرة وإستنهض الحيف حق الناس في العيش الرغيد في مدن أقليمية صغيرة أو كبيرة دون حسابات الآخر كمواطن أو حسابات الوطن كشعب وليس كطائفة أو عرق!

&

والحديث هنا عن مدينة البصرة إقليما.

هي مدينة البصرة مدينتي، الميناء الذي كان الأجمل في الحياة العراقية والذي كان أحد مؤشرات الدولة الإيجابية في تقرير قبول العراق في المنظمة الدولية في بداية تأسيس الدولة العراقية. هي البصرة صاحبة المجد الثقافي وصاحبة الإرث الجميل تغزوها اليوم الأفكار المتخلفة بل وتصدر لها بل وتجبر على ممارستها من أجل رميها في أتون التخلف ومن أجل القضاء على جمال المرأة الجنوبية المتمثلة بلوحة "بنت المعيدي" الشهيرة كجمال متميز رسمت إبتسامتها الحزينة كما إبتسامة موناليزا الحزينة لأنهما أرغما على الزواج بالضد مما تشتهيان، وها هو الواقع الإجتماعي المتخلف بين الدين والعشيرة وترسيخهما يقودان المدينة المتحضرة بسبب إغفاءتها على ساحل الشاطئ وعلى أرصفة الموانئ الآتية من حضارة العالم ومدنيته، يقودان المدينة المتحضرة نحو مهالك التخلف الديني والعشائري ومهالك التخلف المتمثل بإخفاء جمال المرأة وإغتيال أنوثتها وحريتها تحت ضوء الشمس! ومهالك التخلف الذي ألغى الثقافة هوية الأوطان من رحم المجتمع البصري المتحضر، هذه السمات المتخلفة ليست سمات بصرية على الإطلاق. إنها سمات مصدرة للبصرة، وعلى أهل البصرة رفضهما مثل رفض الحنطة المسمومة والرز الفاقد الصلاحية. رفض هذه السمات المخطط لها قبل أن تشكل الملمح الأساس للأقليم المقترح متسارعا في خضم الأحداث الدرامية الحاصلة اليوم في العراق الذي يرمى به نحو هاوية التخلف والعتمة.

البصرة مدينة الجاحظ البصري ومدينة محمود البريكان وبدر شاكر السياب. مدينة جعفر البدر الديمقراطي ومدينة فيصل السامر الشيوعي، المدينة التي أحبها عبد الكريم قاسم وأرسل لها مزهر&الشاوي كي يحرق أكواخ المعقل النائمة على المياه الآسنة والتي كنت أحد ساكنيها يوما، حولتها ثورة الرابع عشر من تموز إلى أحياء عصرية تليق بالإنسان البصري وتاريخه. المدينة التي يسهر في لياليها الناس ويأتيها المالون من رتابة الخليج كي يكسروا الإيقاع الواحد المتتالي ويأتون حيث تصدح فيها أغاني الوله حتى الصباح في البصرة، المدينة التي إستقت من ثورة الحسين معان إنسانية وقيم في عاشوراء تتمثل في الحب والإيثار والتضحية من أجل الآخر، المدينة التي كانت تعطي ولا تأخذ، كانت تمنح الخير من نفطها لكل العراق ولم يصبها من نصيبه سوى القليل وكانت في القليل تبني نفسها وهي تشعر بالسعادة لأن في كيانها ما هو أغلى من النفط "الحنان". البصرة المدينة التي عرف بطيبة أهلها وكرم أهلها. المدينة التي حوت الأديان وصادقتها صادقة من المسيحيين واليهود والصابئة، وكنا سعداء فيها، بنينا المسارح وصدحت أغانينا والموسيقى في سماء العرب، وكانت رحلاتنا لـ الأثل تملأ الواحات البعيدة زهواً تغمرها العائلات بلذيذ الفرح البصري. نعم.. للبصرة تاريخ عريق حاول الدكتاتور حرقه وإذلال أهل البصرة ويكذب من يدعي بأن الإنتفاضة ضد الدكتاتور قد إندلعت خارج مدينة البصرة بل أن جنودها الشباب عادوا من صحراء الذئاب الصحراوية والبشرية ليمطروا جدارية الدكتاتور بالنار والأحذية في البصرة فأندلعت وإشتعلت الإنتفاضات في مدن الجنوب ومدن وسط وشمال الوطن!

بعد سقوط الدكتاتور إختيرت البصرة لتجارب القوى المتخلفة فلقد تم تصدير القتلة والأشراء كي يزرعوا الخوف والموت في بيوتها وحاراتها وساحتها فسادت المدينة موجة العمائم السوداء المزيفة المخيفة وأتكأت العشيرة على مليشيات زائفة ومعقدة ضمن مؤامرة خبيثة تستهدف التحضر البصري والقيمة الجميلة والتاريخية والعلمية للميناء الوارف الحب على ضفاف الشواطئ. ظاهرة التخلف واضحة في فضاء البصرة الجميل. هذا الفضاء تسوده اليوم الغمة والعتمة أكثر بكثير من غمة وعتمة النظام الغبي الساقط وهو أمر مؤسف أن تتحول المدينة المتحضرة مدينة الجاحظ بمفهومها الأنيق والعادل إلى مدينة للخوف والتخلف المتمثل بالدين بقراءته المتخلفة والعشيرة بمفهومها المتعصب والإلغائي، وهي قيم غريبة عن المدينة ومستوطنة فيها قسراً وهي الآن تشعر بالحيف أن يسرق نفطها ويباع لها وتشتريه بثمن باهض وتدفع من حياتها وتحضرها ثمنا باهضا، طالبت اليوم بأن تصبح أقليما يبني نفسه ويسعد أهله بخيراته وكفى المدينة حلبا وإبتزازاً، فإن كانت المدينة سوف تصبح أقليما له إستقلاليته وعائديته وهي سائرة نحو ترسيخ التخلف والغرق في الدين بصيغته الخرافية وليس بصيغته الحضارية والعادلة ووفق آية الله "لكم دينكم ولي ديني" وسيادة العشيرة التي ستمزق الأقليم إلى أقاليم وكانتونات وحارات ومافيات فالحذر الحذر كل الحذر من الأتجاه الذي بدأت رموزه تتحرك كي تهيمن على المشهد الحضاري وتحوله إلى كتلة سوداء غارقة بالدم. الرفض الرفض أهالي البصرة لكل التيارات السلفية وهوسات الأقليم غير المبرمجة حضاريا وعلميا. الرفض الرفض أهالي البصرة لهيمنة القطط السمان والحيتان الغلاظ فسوف تبتلع اللحمة والشحمة وتترككم "هياكل عظمية تسير وتعوزها القوة التي تحركها الأ وهي الحرية - عبد الكريم قاسم". الرفض الرفض لأصحاب العقول الميتة والشهادات المزورة أن تهيمن على المشهد البصري وتعلن بالهوسات واللغط والإعلام المفتعل عن أقليم التخلف الديني والعشائري المقيتين.

البصرة المتحضرة البصرة المدينة المدنية البصرة المسرح والشعر والسينما وصالات السينما الحلوة في رحلة الشتاء والصيف والبصرة بدينها الواقي عن الخطأ والرذيلة الرذيلة. البصرة الفيحاء أهلا بها ولكن بوعي المعاصرة لا بعقلية السلف المريضة التي تقود مشهد الأقليم الذي يدغدغ عواطفكم دون الوعي الذي ينبغي أن يقرأ الحاضر بعين المستقبل!

فإن كان الإقليم ممنهجا ومرسوما ومضمونا بصيغته الحضارية فأهلا به لأن العراق بمجمله سائر في ركب التأخر وسيادة الخرافة وهيمنة الفساد ونهب الثروات بقيادة مافيات لم يعرف التاريخ مثيلا لها. أهلا بإقليم متحضر مدني معاصر وسوى ذلك لا تسارعوا في رفع العلم قبل سيادة العلم والمعرفة&بعيدا عن الإنتهازيين الذين لم تتمكن حتى حضارة الغرب من التأثير إيجابا على عقولهم اليابسة وهم سكنوا في الغرب لاجئين، وعادوا يبشرون بأقليم يموت على ساحل النهر ولا يغفو عنده حالماً!

&

كاتب وإعلامي عراقي مقيم في بانكوك

&

[email protected]