فُتحت شهية العراقيين على استحداث محافظات جديدة.
الحكومة صوتت على مشروع قانون تحويل قضاء تلعفر في نينوى الى محافظة، وتدرس إمكانية ذلك مع قضائي الطوز والفلوجة وسهل نينوى، وبمعزل عن ضرورات القرار امنيا واداريا، فهو فتح بابا امام مشكلة جديدة، وكشف عن مزيد من الانقسام والانشطار.
ثلاثة اقضية في ذي قار التي لا يزيد عدد سكان كل نواحيها وقصباتها واقضيتها ومركزها عن المليونين، تريد ان تحصل على شارة محافظة، الزبير في البصرة ترغب بذلك أيضا. بالطبع ان الكوفة ستطلب العلو، رمزية التاريخ فيها تقتضي، الرميثة في المثنى أيضا تجد ذلك استحقاقها، سامراء في صلاح الدين ترى نفسها أهم من تكريت، الخالص بفعل الصراع الطائفي يمكن ان تقول كلمتها، القرنة في البصرة، العزير ربما ستحدثنا عن رمزيتها الدينية، الصويرة والعزيزية والحي في واسط، طويريج ستقول انها مركز من مراكز الشعائر الكربلائية فلابد ان تحظى بذات الفرصة، الحويجة العربية في محيط كردي وتركماني بكركوك ربما ستطالب بـquot;التحولquot;.
نحن اليوم نجس نبضنا، نختبر حجم تشرذمنا، وعمق ما يمكن ان تخلقه السياسة من انشطار. قبل سنوات، وفي ذروة العنف الطائفي بعد تفجيرات سامراء 2006، كانت أي فكرة حول تقسيم العراق، انشاء الأقاليم، بل انفصال إقليم كردستان بدولة مستقلة، فكرة مرفوضة لدى الكثير من العراقيين. يصعب ان يلحظ المرء تفاعلا من الفكرة لدى اغلب الشرائح العراقية، عدا بعض السياسيين، وحدة العراق ظلت الى وقت قريب شيئا من المقدسات.
حتى على المستوى السياسي، لم تكن موضوعة الأقاليم تلقى اهتماما الا من القوى الكردية والمجلس الأعلى، وشعار إقليم المحافظات التسع الذي رفعه عبد العزيز الحكيم منذ 2003 كان يصطدم بجدار رفض القوى السنية والكثير من الشيعية. الأقاليم في الخطاب السياسي المضاد تعني التقسيم.
اليوم انقلبت الموازين، من رفض الفدرالية أمسى شديد الحرص على تحقيقها، ومن اعتبر الدستور مقسِما بات يدافع عن مضامينه المؤسسة لحق الأقاليم، الغالب من الجماعات السياسية والدينية السنية يدعو لها علانية. ومن السهولة بمكان ان تسمع مقولة quot;خلي يقسمونه، خلي نرتاحquot; عند الفرد العادي، وحتى السلطة او رأسها الذين يقدمون أنفسهم كمدافعين عن وحدة العراق، يفعلون ذلك حرصا على الإمساك بخيوط الحكم المركزي، وليس حرصا أسسه الوطنية. وجانب من خلفيات العمل على تحويل بعض الاقضية محافظات، هو لتعزيز فرصة امساك السلطة مركزيا، وتضييق الفرص على أي مسعى يهدد ذلك.
منهجية العمل السياسي العراقي والاحداث الإقليمية والداخلية تستخدم عمق الانشطار العراقي، تؤسس عليه وتطوره. القوى العراقية تتلاعب بنقاط الضعف الموجودة في البلاد لتحقيق مكاسب سياسية، طائفية تارة، مناطقة أخرى، وربما عما قريب قبلية وعشائرية. هذا الانشطار وحالة اللا وئام العراقية ليست طائفية فقط، فمن الخطأ حصر الموضوع في الخلاف السني الشيعي، او العثماني الصفوي، البويهي السلجوقي، العلوي العباسي، الهاشمي الأموي، عراقيا... هذا خلاف عميق وتاريخي ومقدس بالطبع، وهو عنصر رئيسي في صناعة الشقاق... الا انه انعكاس لتشرذم أكبر، كشفته تطورات عديدة داخل الطائفة والقومية والمنطقة والجماعة الواحدة، وموضوع تحويل الأقضية الصغيرة والكبيرة لمحافظات مؤشر عليه.
عندما تصل اعداد الاقضية الراغبة بالتحول لمحافظات الى 14 طلب، ويرتبط الكسب المالي والسياسي بإنشاء اداريات جديدة، فان هذا يشير الى ان العقلية السائدة باتت تتعامل مع العراق بشكل مناطقي، فئوي، وليس برؤية واسعة. القابلية على الانشطار تستغل بأسوأ ما يمكن من قبل النافذين، كل بحسب اتجاهاته ومصالحه.
بالطبع ان المحافظات الجديدة لا تعني تقسيم البلد، الا ان حصولها على موافقة شعبية تعني ان المجتمع لم يعد معنيا بالأسماء التقليدية لانتماءاته، فابن محافظة ذي قار لا يهمه ان يكون ابنها، هو ابن قضاء الشطرة وسوق الشيوخ والرفاعي، وابن قضاء الزبير لم يعد معنيا ان يكون بصريا، هو ابن الزبير.
ينتمي العراق في عصره الحضاري quot;البدائيquot; للدويلة المدينة، حيث كانت كل مدينة سومرية دولة قائمة باذتها، وغادرها لاحقا في عصره البابلي، ثم في قرونه البغدادية، الا ان هذا الوضع التاريخي اصطدم دائما بجهود الجماعات السياسية والدينية التي تأخذ المدن والولايات بعيدا، تعطيها نزعة استقلالية موغلة بالخصوصية. ما يجري في العراق اليوم هو تعزيز لنزعة المناطق، تمهيدا لمرحلة ما بعد انتهاء الصراع الطائفي، ويقف خلف هذا السلوك مكاسب مادية وسياسية جمة لا يمكن ان تتحقق الا بهذه الطريق.
إقامة الأقاليم الطائفية او تقسيم العراق الى ثلاثة بلدان يعطي فرصة لمشكلة جديدة، لانقسامات أخرى، الكل، شيعة وسنة يعيشون اليوم على فكرة عدو يجمع كلا منهما ضد الاخر، إذا انفرط العقد، وغاب العدو، فان المناطق والطوائف ستموج بصراعات أخرى، مناطقية وقبلية وسياسية، قد لا تكون بذات قداسة الصراع السني الشيعي، لكن الأكيد انها ستجد ما يخلق قداستها الخاصة.
اغلب الجماعات السياسية العراقية تلعب على أرضية quot;الشقاق الخصبةquot;، تؤهلها لتكون أكثر تشرذما، وخلف ذلك عدة أسباب؛ تارة لان السلطة تريد تشتيت خصومها، وأخرى لان المال والمكسب مرتبط بإنشاء اداريات أخرى، وثالثة لأن السنة او الشيعة لم يعودوا يتحملون العيش سويا فلابد من جدار عزل عنصري، ورابعة لأن معارضي العملية السياسية فقدوا الامل بالسلطة في عراق موحد... غير ان كل هذا مرهون بأداء السلطة نفسها، هي الوحيدة القادرة على حماية البلاد من التشرذم باحتواء التناقضات عبر مشاريع جادة وعملية وكفؤة.