في تحليله للتغير الاجتماعي، قال العلامة العربي عبد الرحمن بن خلدون أن المجتمع في حالة صيرورة مستمرة ولا يركن إلى حال واحدة والأحوال تتغير بتغير العوامل البيئية والسلطة. كما أن طبقات المجتمع في حالة صراع والأقوى يفرض أسلوبه على الأضعف وتسود ثقافته. ورفض ابن خلدون التغير التلقائي للمجتمعات وقد فسر حالة التغير بصدام العصبيات والطبقات وكل فئة تحاول التغلب على الفئة الأخرى وبالتالي تفرض سلطانها وقيمها. وبناء على هذا التحليل، لا يمكن للشعوب أن تتقهقر إلى الماضي وتتمسك بموروثها الثقافي انطلاقا من الحرص على الأصالة والثوابت التاريخية. وإلا لوقعت ايطاليا واليونان في هوس الحنين إلى الماضي حين امتدت الإمبراطورية الهلنستية في ثلاث قارات هي أوروبا وآسيا وأفريقيا وشهدت العلوم تقدما متميزا وبرز لديها مفكرون وعلماء في مختلف المجالات مثل إقليدس وأرخميدس وأفلاطون وغيرهم. وكذلك الأمر بالنسبة للامبراطورية الرومانية إذ بلغت مدى عظيما ضم بريطانيا وفرنسا وألمانيا وايطاليا واسبانبا والبرتغال واليونان وتركيا ومصر وشمال أفريقيا وشرق البحر الأبيض المتوسط وجميع جزر المتوسط وايجة. لكن هاتين الدولتين لا تدعوان إلى العودة إلى الجذور وعبادة أبولو وزيوس وإحياء ذلك التراث العظيم في حياتهم المعاصرة.
إن التغير التاريخي يجلب معه تغيرا فكريا يفرض مفردات جديدة تتلاءم مع مقتضيات الواقع الجديد، ففي تلك الحضارات كان الانتصار في الحروب يعتمد على بسالة المقاتل وشجاعته، لذلك فقد تفوق العرب وتألقوا وفاقوا جميع الحضارات السابقة بشجاعة جنودهم. بيد أن الزمن تغير كثيرا ولم تعد الشجاعة في القتال تعني أي شيء وحل محلها التقدم التكنولوجي وحسن التخطيط والتنفيذ، وهذا ما دفع السلطان العثماني محمود الثاني إلى القضاء على الجيش الانكشاري الذي اعتبره مصدرا للتخلف على الرغم من أن هؤلاء الجنود كانوا شديدي البأس وسببا في انتصارات العثمانيين لفترة طويلة من تاريخ الإمبراطورية. إلا أنه وبعد اختراع المدافع، هزمت الدولة العثمانية أمام الزحف الأوروبي وبات الجيش الانكشاري تركة قديمة لا تعني بسالتهم شيئا وشكلوا عبئا على الدولة. واليوم يوجد أكثر من سيدة تتولى وزارة الدفاع في أقوى الدول وأكثرها تقدما.
كما لم تعد الشورى نظاما فعالا في ظل مستجدات العصر وهناك فرق بين البرلمانات ومجالس الشورى
فالشورى في الإسلام لأهل العقد والحل، وفي جميع الأحوال فإن أهل العقد والحل لا يشبه البرلمانات الحديثة ومجلس الشورى أقرب لمجالس quot;الأعيانquot; أو quot;الشيوخquot; في الكونغرس الأمريكي إذ يقوم الرئيس بتعيينهم تعيينا. ومع اتساع البلاد وكثرة الناس، بات لزاما على إدخال هذا التنظيم الحديث وهو انتخاب quot;أهل العقد والحلquot; أو البرلمان بصيغته الحديثة بالنظر إلى أن كل منطقة تحتاج من يتحدث باسمها في دوائر الحكم. وتطبق البرلمانات الديمقراطية وهي مشتقة من لفظ يوناني يعني حكم الشعب بينما نظام الشورى قائم على حكم الله واستمداد كافة الأحكام من الشريعة الاسلامية. كما أن الديمقراطية تسمح بتعدد الأحزاب وتنادي بفصل الدين عن الدولة وهذا ما لا يقره الإسلام. ولا يوجد دليل واحد في القران والسنة على جواز الخروج عن طاعة الحاكم ولم يحدث في تاريخ الخلافة أنه تم الإطاحة بحاكم ما لتقصيره في أداء واجباته واختيار غيره. وبينما أقر المارودي في كتاب الأحكام السلطانية جواز عزل الحاكم فإن من جاء بعده مثل الغزالي وابن تيمية لم يبيحا التمرد على السلطان وقد ورد عن ابن تيمية قوله quot; ﺳﺘﻮن ﺳﻨﺔ ﻣﻦ إﻣﺎم ﺟﺎﺋﺮ أﺻﻠﺢ ﻣﻦ ﻟﯿﻠﺔ بدون ﺳﻠﻄﺎن.quot; أما في البرلمانات الغربية فيمكن للبرلمان الإطاحة بالحاكم إذا أضر بالمصالح القومية.
لقد كان التقدم العلمي نقطة تحول قلبت جميع المفاهيم الكلاسيكية من شجاعة وقوة وإقدام واستلهام الوحي وطلب النصرة الإلهية وأهل العقد والحل والشورى، وأصبحت المفاهيم الجديدة تدور حول الابتكار والتخطيط والتحالفات والتكتلات لتحقيق المصالح المشتركة. ونحن في العالم العربي، لا نزال نتأرجح بين الأمجاد الغابرة ومقتضيات العصر الحديث فلا نحن قادرون على إحياء المجد الغابر ولا أن نلحق بركب المدنية التي تقضم أطرافنا بالتدريج وسوف تأتي على جسم الوطن العربي كله يوما ما. وحري بالدول العربية أن تستوعب مفردات العصر وتبدأ بالعمل على أساسها وهذا يتطلب تغييرا ثقافيا وتعليميا وتطويرا للعلوم والتكنولوجيا والتكتل في اتحاد عربي يترجم بخطوات عملية على أرض الواقع كالدفاع المشترك وسهولة التنقل بين دول المنطقة كمخرج وحيد من المأزق الذي تمر به حيث المخاطر محدقة من كل صوب والسماء ملبدة بالغيوم.
سهى الجندي