عام 1938، هدد هتلر بغزو تشيكوسلوفاكيا بحجة سوء تعاملها مع السكان الألمان الساكنين في إقليم السوديت التابعة لتشيكوسلوفاكيا. ولمعالجة التوتر الشديد سارع تشمبرلمن، رئيس وزراء بريطانيا، مع رئيس وزراء فرنسا، لاسترضاء هتلر، وذلك بالموافقة على أن تضم ألمانيا ذلك الإقليم عسكريا. وحين طلب هتلر إجلاء التشيكوسلوفاكيين القاطنين في الإقليم ورفض التشيك، كان الرد البريطاني أن الأمور كلها يمكن بحثها فيما بعد بالمفاوضات بين ألمانيا وتشيكوسلوفاكيا. وهذا ما تم إقراره رسميا في المؤتمر المشؤوم، الذي عرف بمؤتمر ميونيخ، وحيث تعهد هتلر بأن السوديت هي آخر طلباته- علما بأنه كان بين الاتحاد السوفيتي وبريطانيا وبين تشيكوسلوفاكيا اتفاقيات لحماية سيادتها وأمنها، ولكنهما تناسيتا التزاماتهما. وما أن مضت شهور، حتى غزت القوات الألمانية بقية الأراضي التشيكوسلوفاكية، قارعة بقوة طبول الحرب بعد أن جربت ضعف الردود الغربية والحياد السوفيتي. وقد سارع ستالين لعقد اتفاقية صداقة مع هتلر، تاركا الغرب لوحده في مواجهة المحور الفاشي. وفي 1939 قام هتلر، وهو تحت هوس غرور القوة والاعتقاد بالسلبية الغربية، بمهاجمة بولونيا، ولكن الرد جاء حازما هذه المرة، [ تشرشل بدل تشمبرلن]، فاندلعت الحرب العالمية الثانية. وقد برهن ميونيخ على أن سياسات استرضاء المعتدين والطغاة تزيد من شهيتهم للقضم والطغيان، وأن الاستسلام للمعتدي ليس هو ما يجنب الحرب .
في 2014، تغزو القوات الروسية شبه جزيرة القرم بجنود مقنعين، ومليشيات روسية محلية شكلتها القوات المحتلة. وروسيا اليوم تعمل علنا لضم شبه الجزيرة بحجة سوء معاملة حكومة كييف الانتقالية للأقلية الروسية وللناطقين باللغة الروسية، وسيكون الضم بمسرحية استفتاء صوري. بوتين يردد ليل نهار أن نازية جديدة تحكم كييف وتهدد روسيا والروس، ولكن ما يشاهده العالم أمام الكاميرات هو مطاردة عصابات روسية في عاصمة شبه جزيرة القرم، وبمساعدة الجنود الروس، للسكان الأوكرانيين. وقد شاهدنا مجموعة من نساء روسيات هائجات تهاجم طالبة أوكرانية لأنها تحمل علم بلادها، ولما أرادت الاحتجاج جاء جندي روسي وأبعدها. ورأينا المليشيات المسلحة تطوق مبعوثي منظمة الأمن والتعاون الأوروبية، الذين جاؤوا لاستقصاء الأحوال، ويهددونهم، ثم يجبرونهم على مغادرة المنطقة. ترى، أين هي إذن العصابات والممارسات النازية؟؟!!
في 1994، تم اتفاق في بودابست بين أوكرانيا من جهة وبين روسيا وأميركا وبريطانيا من جهة أخرى على أن تكون الدول الثلاث ضامنة لاستقلال وامن ووحدة أراضي أوكرانيا مقابل تسليمها لأسلحتها النووية. وها هي روسيا تنتهك الاتفاق بالقوة العسكرية، كما تنتهك القانون الدولي، بذرائع تشبه الذرائع الهتلرية؛ أما بريطانيا والولايات المتحدة، فلحد اليوم لم تشيرا لذلك الاتفاق وتعهداته، وإن قامتا بإدانة غزو شبه جزيرة القرم واتخذتا مع دول الاتحاد الأوروبي بعض الإجراءات التي هي بمثابة عقوبات ولكنها تخدش، ولا تردع، لاسيما ولبوتين أوراق عدة.
أوباما يواصل دبلوماسية الهاتف المباشر مع بوتين لعل وعظه ومحاضراته الأكاديمية تقنع سيد الكرملين، [ قيصرها]، بالتعقل والاعتدال، ولكن هذا أسلوب يعتبره القيصر ضعفا، وليس هو من يعيره انتباها جديا وخاصا، شأنه شأن خامنئي وروحاني ومكالمة أوباما الهاتفية التي نجم عنها تراجع الولايات المتحدة عن نصف المطالب الدولية النووية من إيران، بما في ذلك حجب حق التخصيب عنها، كما نجم ترك إيران تخرب في المنطقة كما تشاء مع روسيا.. صحيح أن الخطب والتصريحات الأميركية جيدة، ولكن ماذا يريد أوباما بالضبط من هذه المكالمات الهاتفية التي يبادر إليها؟ هل يأمل في صفقة منفردة كالصفقة الكيميائية في سوريا؟ لكن القضية هذه المرة أخطر بكثير جدا؛ إنها قضية الأمن الأوروبي نفسه، فإذا نجح بوتين في قضم القرم بلا عقاب جدي يردعه، سواء قي أوكرانيا أو في الساحة السورية، فإنه سوف يصعّد وبيديه أوراق للضغط والابتزاز وإشعال الفتن الداخلية، وتهديد الجمهوريات السابقة والدول الشرقية، كبولونيا ورومانيا وبلغاريا وهنغاريا ودول البلطيق. هذه الدول تنتظر لترى مدى قوة ردع العقوبات والإجراءات الغربية، ومدى الاستعداد لدعم الأوكرانيين لو قرروا الوقوف بقوة في وجه الغزو الروسي. المساعدات المالية من الاتحاد الأوروبي إجراء مهم، وكذلك قرار التوقيع على اتفاقية الشراكة مع أوكرانيا والتي كان الرئيس المعزول قد رفضها، وهو ما فجر الموقف في ميدان كييف.
في عام 1938 كان هناك مؤتمر ميونيخ الذي شجع هتلر وسارع بالحرب بدل تجنبها. هذه المرة، الظروف تختلف، ومن الصعب توقع حرب ساخنة بين الغرب وروسيا قد تهدد بالانتشار. ولكن من المتوقع جدا أن كل موقف غربي ليس بمستوى الخطر الروسي سوف يزيد التوترات ويزيد من شهية القصير الروسي.
بوتين لم يبرهن يوما ما على أي حرص على قيم الديمقراطية والتسامح واحترام حقوق الشعوب. فقد حارب الشيشانيين حربا دموية شعواء وإجرامية دفعت بالكثيرين من الشباب الشيشاني لأحضان الإرهاب الإسلامي والمشاركة في حروب القاعدة في كل مكان. وكان يمكن تجنب هذا بتلبية حقوق الشعب الشيشاني وعزل المتطرفين. وبوتين انقض على جورجيا وسلخ منها إقليمين دون رد فعل غربي حقيقي، مما سمح له اليوم بالتمادي، كما كانت الحال مع هتلر بالأمس. وبوتين يحتقر القانون الدولي ويعطل نجلس الأمن، ويقول عن سوريا شيئا ويقول في الحالة الأوكرانية العكس، ونعني عن السيادة وعدم التدخل..
بوتين يمارس سياسات القوة، داخليا وخارجيا، وبإزائه رئيس أميركي يصلح أستاذا جامعيا يعظ عن قيم السلام وحقوق الإنسان، فإذا جاء الجد، لم تجده على مستوى المسؤولية. ولكن ماذا لو تمادى بوتين وقام بمغامرة جديدة كبرى تجبر أي رئيس أميركي- وحتى رغم إرادته- على الرد الضروري والفوري؟ والسؤال أيضا: كيف سيكون الموقف الغربي، والأميركي خاصة... لو اشتعلت النيران بين القوات الروسية والمقاومة الأوكرانية؟؟