بدايات الأشياء هي من أصعب ما يكون. لا يستسهلها سوى المتهورون وقادة الإنقلابات. والبداية الصحيحة هي أساس كلّ إصلاح وتغيير، وقاعدة لكلّ فعل جادّ ولكلّ بناء حقيقي قادمين إفتراضا. الاختلاف حول تحديد البادئ والمبتدئ والبداية والسبب والمسبب في صراعاتنا ونزاعاتنا الداخلية لا يمكن لها أن تحرّرنا كأفراد أو جماعات من سجن الماضي القريب أوالبعيد. التفسيرات ستبقى متضاربة حولها ومن الأفضل تحييدها أو تجميدها ولو مرحليا. التحييد لا يعني النسيان. بل هو يعني إضعاف للخلافات التي قد تجد لها حلولا مقبولة ومعقولة بعد حين.& الإختلاف والخلاف يميلان طواعية للتراجع لصالح ما هو أقوى وأرقى من صلات وعلاقات يمكن لها أن تنشأ في مناخ التفاهم.
ثمّة من يعتقد محقّا في أنّ الخلاف والتنازع هما من طبائع المخلوقات كلّها. لكنّ هذا الإعتقاد السائد هو بدوره قاصر وميكانيكي. لماذا؟. لا توجد طبيعة عصيّة على التطبيع. التحوّل هو منطق الطبيعة الصامتة وعصب الحياة ومحور الوجود. هذا ما تؤكده إنجازات العلوم والمعرفة كلّ يوم وفي جميع الحقول والميادين. الشخصيات قابلة للتبدّل والتغيير نحو الأفضل. الإختلاف حول كلّ شيء مستحيل. النافخون في الهويات الفرعية يقولون العكس. نظارات معتمة توزّع على عميان. تلك هي هداياهم الطائفية لجمهورهم.&
العراقيون كمجموع مغيّبون في الداخل وفي الخارج. الفاعلون منهم على الساحة منقسمون. مظلة الدولة الحامية لم تعد تصمد أمام رياح التحوّلات السريعة التي& تكاد تذرو بما تبقّى من رموز ومشتركات وأسباب للعيش المشترك. لا يضاهي سرعة العواصف السوداء سوى تقلّبات الساسّة والسياسيين أنفسهم. الظلام لا يعنيهم. عيونهم تلمع وتبرق كعيون القطط.
هل فهموا اللعّبة وتكيّفوا معها؟. أم هم كانوا الأكثر مهارة وفهلوة& والأسرع من سواهم لتلقيح بويضة السلطة. السلطة والمال والنفوذ وكيفية حيازتها وطرق الوصول اليها ثمّ طرق الإحتفاظ بها وحمايتها هي مساعي معظم الخصوم والحلفاء المتنفذين. الجامع لهم والمفرّق في آن. لا مكان الآن لقيّم أخرى.&
ما الذي سيفعل هذا السياسي بالسلطة ؟. هي أنثاه الفاتنة التي داعبت خياله طويلا دون شكّ.
ولكنّها غالبا لا تليق به ولا يليق بها. فهو غير قادر على حسن إستخدامها ومعاملتها برقّة. العنف والبذاءة والإلغاء هي من بعض دروس دورات الإخصاء التي تعلّمها سابقا، سواء في حياته الحزبية أو في حياته الشخصية والعامّة. الطاعة والإذعان والتبعية والخضوع والإلغاء المزيّف للذات، هي ما سوف يجد السياسي تعويضا لها كلّها دفعة واحدة، في أنثى السلطة.
هي أيضا، عشيقته ووهمه وفردوسه المفقود معا. غير أنّ قلبها سيبقى موضع صراع محتدم بينه وبين خصومه وحلفاءه. طابور المخصيين طويل.
السلطة الحقيقية لها قواعد وأصول. تقليدية كانت أم حديثة. الفهم السائد للسلطة عند ساستنا هو فهم هجين. فلا هي حافظت على قيم الوطنية والدين والتراث والحضارة ومعاني المشاركة والتشاور والتقارب والإقتراب من بعض، ولا هي إستحدثت البدائل الجديدة وإستلهمت قيم ومفاهيم العصر وعملت على إستيعابها وتمثّلها وإشاعتها في المجتمع. والنتيجة كانت ومازالت الفوضى والفراغ وفقدان الشعور بالمسؤولية وغياب الإرادة الحرّة.
فلا القومية نجحت في أرساء معاني المواطنة والمساواة، ولا الدين نجح في إرساء معاني الأخوة والرحمة.
الموارد والنفوّذ هي الأحضان الدافئة الوحيدة . السلطة وحدها ولا شريك لها. ففي معبدها من الكهنة والعطور والبخور ما سوف يعوّض عن تاريخ طويل من الضآلة.
القلّة من نخبنا، السياسية والدينية والثقافية، إستخدمت سلطاتها على الآخرين بعدالة وصبر وتفّهم. غالبا ما كانوا هؤلاء ضحايا للغدر والإغتيال والموت على الأرصفة أو عرضة للنكران والتهميش والإتهام والتلفيق. ثمّة حلقة مفقودة بين الناخب والمنتخب ليس سياسيا فقط. بين الرعية التي تحلم بالمواطنة وتتطلّع للمساواة، وبين السادة الذين لا يحلمون سوى بأرصدتهم.
مصلحتان لا تلتقيان. قالوا أن المصالح ميالة للتصالح. غير أنّ هذا ممكن بوجود القانون وفي سيادته. أمّا في شريعة الغاب، فالفريسة لا تقبل القسمة العادلة حتّى مع الأقربين.
اللعبة السياسية في العراق وحوله وعلى أراضيه، لا يدرك قواعدها السرّية سوى من يديرها عن بعد بالريموت ـ كونترول الإقليمي والدولي. الداخل مستخدم غير فاعل وغير مؤثر على الإطلاق. مهمته الوحيدة هي إشعال الحرائق وتوليد الأزمات دوريا وبالتناوب. العقلاء ورجال المطافئ القليلون لا أدوار لهم. تأخروا كثيرا، غير أنّ الأحداث لم تتجاوزهم تماما. قد تحصل مفاجآت.
&العمى أصاب بصيرة الساسّة وقلوبهم. لكنّهم ظلّوا يبصرون كالقطط في الظلام ويعرفون ويتعرّفون على مسالك الثروة والنفوذ. بعضهم أدمن على بريق السلطة الوهّاج ونيرانها التي تلسع. ثمّة ماسوشية غير عادية في الأمر. الإنحراف خطير والأحاسيس تتبلّد. فشلوا في الإنتقال من نظام الإلغاء والتصفية الجسدية الى منظومة القبول والتعايش والإحترام المتبادل. إبتكروا الإلغاء المعنوي والروحي والإنساني& والثقافي والديني والمذهبي. جوهر الإلغاء ظلّ دون مساس. النجاح الوحيد الذي تحقق هو إنتقال وتحوّل المناضل القديم الى سمسار& مكشوف أو مستتر. البدايات ستكون أصعب على مجتمع يتيم خانته النخبة.
باريس
&
التعليقات