دمرت اليابان تماما خلال الحرب العالمية الثانية، بل وقبل أن تلقى على مدينتي هوريشيما ونجازاكي، في شهر اغسطس من عام 1945، القنيلتين الذريتين. وقد استفادت اليابان من تجربة هذه الحرب المدمرة، لتتحول من مرحلة، فشل الفكر الايديولوجي الثيولوجي المتعصب والمدمر، إلى مرحلة نجاح الفكر البرغماتي، العلمي، المتفتح، والمنتج. فقد تقبل الشعب الياباني الهزيمة، والغزو الامريكي، بعد الاعتداء الياباني على الاسطول الامريكي في بير هاربر، ببرغماتية رزينة، وحكيمة، ورصينة. فبدل أن يحرك الشعب الياباني، الجزء المختص بغرائز الرد الانفعالية، وعواطف الانتقام الحيوانية، في عقله الباطن، حاول أن يستفيد من الجزء المختص بنعمة التفكير، برزانة، وحصانة، وحكمة. فحاول أن ينسى عاطفة الانفعال والانتقام ضد عدوه الأمريكي، ويقبل أولا بالدستور الذي فرض عليه من الجنرال الأمريكي، ماكارثر، بعد أن رفض ماكارثر الدستور الياباني الجديد، الذي عرض علية من اللجنة اليابانية المعينة لتطوير الدستور الياباني القديم. بل اختار جنرال ماكلارثر أثنين من عساكره الأمريكيين، المختصيين في الدستور، ليضعوا دستور ما بعد الحرب العالمية الثانية لليابان، على أن يوافق عليه البرلمان، والشعب الياباني، ويصدق عليه جلالة الامبراطور، وباندار مبطن، بأن الأمبراطور سيشنق، إن لم توافق اليابان على الدستور الأمريكي الجديد لليابان.
فمرة الاخرى تفوق العقل الباطن الياباني، المختص بالبرغماتية وحكمة التفكير، على الجزء المختص بنهمة الغرائز، وانفعالات العواطف، فشل الشعب الياباني عواطف الانتقام، وتجنب خلافات مناقشة الدستور الياباني الجديد، الذي وضعه الجنرال ماكارثر، وتفرغ لتكملة تطوير بلاده من جديد، من خلال التعليم المتقدم، والانتاجية المبدعة، والتعاون مع العدو الامريكي لبناء تكنولوجيات يابان المستقبل. ولم تمر ثلاثة عقود من الزمن، والا بأن تتحول اليابان المحروقة، إلى ثاني اقتصاد عالمي، متطور انسانيا، واجتماعيا، وسلميا، واخلاقيا، وتكنولوجيا. وقد برز التقدم العلمي للشعب الياباني بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب العالمية الثانية واستسلام اليابان، وذلك بحصول البروفيسور الياباني، هيديكي يوكاوا، على جائزة النوبل في عام 1949، وهو أول جائزة نوبل يحصل عليها ياباني، بعد أن أثبت علماء الغرب نظريته،& التي نشرها في عام 1935، والمعروفة بنظرية "ميسونز"، والتي تعالج التفاعل بين مكونات الذرة، البروتونات والالكترونات، وذلك بوجود قوة نووية ضمن الذرة،& سميت ب "ميسونز"’ تلعب دورا رئيسيا، في التفاعلات النووية ضمن الذرة. وكانت نتيجة هذه النظرية، اكتشاف الطاقة الذرية الهائلة، في البنية المتناهية الصغر للذرة، والتي طورت من خلالها القنبلة النووية، والطاقة النووية، واستخدامات الطاقة النووية، في التشخيصات، والعلاجات الطبية، وخاصة في علاج الامراض السرطانية.
ومنذ عام 1949 وحتى اليوم، حصلت اليابان على أربعة وعشرين جائزة نوبل، كانت احدى عشر جائزة نوبل منها في مجال العلوم الفيزيائية، وسبعة جوائز في العلوم الكيماوية، وثلاثة جوائز في العلوم الطبية، وجائزتين في الاداب، وجائزة واحدة متعلقة بالجهود في عملية السلام، والتي حصل عليها في عام 1974، رئيس الوزراء الياباني، ايساكو ساتو، لتنازله عن الخيار السلاح النووي لليابان، وجهوده في تعزيز المصالحة الاقليمية. وقد يلاحظ عزيزي القارئ بأن اليابان من أول الدول التي اكتشفت السر العلمي للطاقة الذرية والنووية، ولكنها في نفس الوقت، قررت التنازل عن خيار السلاح النووي، والتركيز على حكمة الحوار السلمي، في حل خلافاتها الدولية. وقد تكون اليابان مثلا جميلا لدول الشرق الأوسط، لحل خلافاتها، بعيدا عن الخيار النووي. وتتعلق الثلاث الجوائز التي حصلت عليها اليابان في العلوم الطبية بالتطبيقات العلاجية في الطب. فقد حصلت اليابان على الجائزة الاولى في العلوم الطبية في عام 1987، والتي فاز بها البروفيسور سوسومو تونيجاوا، وذلك لابحاثه في علوم المناعة، وذلك باكتشافه الية الجينات المناعية، التي تؤدي لانتاج الاجسام المضادة، التي يحارب بها الجسم، الميكروبات، وينتج المناعة الذاتية، وهي الابحاث التي لعبت دورا مهما في تطوير الطب المناعي، وتصنيع اللقاحات ضد الامرض الفتاكه.
كما حصل البروفيسور شنيا ياماناكا، في مقتبل عمره، على جائزة نوبل في العلوم الطبية، في عام 2012، عن ابحاثه في اكتشاف تحويل خلايا الجسم الكهلة، الى خلايا جذعية جنينية، ببرمجتها باربعة عوامل جينية، لتستطيع أن تتحول لخلايا جذعية جنينية. وقد كان هذا الاكتشاف، من اهم اكتشافات الطبية في القرن الحادي والعشرين، والذي سيساعد في علاج الكثير من الامراض المستعصية، وذلك باخذ قليل من خلايا الجلد وبرمجتها جينيا، لتتحول الى خلايا جذعية جنينية، والتي يمكن ان تتحول لاي نوع من خلايا الجسم. فمثلا، لو تلفت خلايا شبكية العين، واصيب المريض بالعمى، من الممكن، مستقبلا، اخذ عينة من خلايا جلد المريض، وبرمجة هذه الخلايا الجلدية جنييا، لتتحول لخلايا جذعية جنينية، والتي يمكن تحويلها، لطبقة من خلايا شبكية العين، والتي يمكن زراعتها في عين المريض من جديد، لارجاع نظره. بل يمكن ايضا بهذه الطريقة علاج مرض السكري، وذلك بأخد خلايا من جلد المريض المصاب، وتحويلها إلى خلايا لافراز الانسولين، الهرمون المسئول لعملية دخول السكر لداخل الخلية، وحرقها لانتاج الطاقة، ويمكن بعدها زرع هذه الخلايا في جسم المريض المصاب.
كما يمكن بهذه التكنولوجية البيولوجية الجديدة، تشكيل بعض الاجزاء التالفة من الوجهه، كغضاريف الانف والاذن، بل وغضاريف المفاصل، كمفصل الركبة المعقد. كما يمكن تشكيل طبقة جلد يمكن زرعها في المريض بسبب الحروق او التشوهات الجلدية. وقد تطورت هذه التكنولوجية، باستخدام الية الطباعة البيولوجية الثلاثية الابعاد، في تشكيل قلب جديد، وزراعته في صدر المريض المصاب بهبوط القلب المزمن، أو كلية المريض، المصاب بهبوط الكلية المزمنة. وقد تتطور اليات هذه التكنولوجية، ليتمكن الاطباء من زرع جزء من الاعصاب التالفه في المريض، او زرع خلايا عصبية في المخ، لمعالجة مرض الباركنسون أو مرض الالزهايمر، وربما ايضا بعض الشلل الناتج عن تلف جزء من المخ، نتيجة الجلطة الدماغية، بتعويضه بزرع خلايا عصبية جديدة.
وباختصار شديد، فقد يمتد الاستفادة من هذا الاكتشاف، في تطوير مركز لزراعة الاعضاء، يعتمد على بنك لزراعة الاعضاء، بحيث يمكن ان يوفر هذا البنك للمريض، اي عضو يتلف من جسم الانسان، من كبد، أو كلية، أو قلب، واستبادله بعضو جديد. وقد يكون هذا الاكتشاف سببا لثورة جديد في مجال زيادة عمر الانسان، وتأخير الية الشيخوخة. فقد وصل متوسط عمر المرأة في اليابان لحوالي سبعة وثمانين سنة، بل هناك اكثر من عشرة ملايين ياباني فوق سن الثمانين، كما ان ربع الشعب الياباني يصل عمره اليوم، لاكثر من الخمسة والستين عاما. وقد قرأت مؤخرا كتابا بعنوان، المائة والستة والاربعون، ويناقش هذا الكتاب، بأنه في القرن القادم، قد يمكن أن يصل عمر الانسان لحوالي 146 سنة، بفضل تنظيم اسلوب الحياة، والتغذية الصحية، والاكتشافات الدوائية في تأخير الشيخوخة، مع الاكتشافات العلمية في زرعة الانسجة والاعضاء، والتي ستلعب دورا مهما في تجديد انسجة، واعضاء الجسم البشري، لكي يستطيع الانسان العيش لفترة اطول. ولن يكون ذلك غريبا حينما نتذكر بان بعض الانبياء، عليهم السلام، عاشوا اكثر من تسعمائة سنة، قبل الفين عام. كما ان متوسط عمر الانسان تحسن من ثلاثين عام، في ما قبل القرن الخامس عشر، الى ما بعد الثماننيات في هذا العقد.
كما احتفلت اليابان في الاسبوع الماضي بحصول عالمين يابانيين على جائزة النوبل في علوم الفيزياء، والعلوم الطبية. فقد حصل البروفيسور ساتوشي اومورا، مشاركة، على جائزة نوبل للعلوم الطبية لعام 2015، عن ابحاثه في تطوير ادوية لمعالجة الامراض الطفيلية، والتي ساعدت في شفاء اكثر من ثلاثمائة ميلون مريض في العالم. وقد اعلن البروفيسور اومورا، الاستاذ بجامعة طوكيو، والبالغ من العمر الثامنين عاما، بأنه كان يعتزم الذهاب للبيت في الساعة الرابعة والنصف مساءا، وقد اصرت عليه سكرتيرته الانتظار، ولم يعرف السبب لهذا الانتظار، حتى وصلته مكالمة، مندهشا، من السويد، لتخبره بانه حصل على جائزة النوبل، لهذا العام، في العلوم الطبية. كما حصل بروفيسور جامعة طوكيو، تاكاكي كاجيتا، البالغ من العمر 56 سنة، على جائزة نوبل في العلوم الفيزيائية لعام 2015، مشاركة مع البرفيسور الكندي، ارثر ماكدونالد، على اكتشافهما، بأن "النترينو" هي كتلة فيزيائية حقيقية، وليست فقط نظرية فيزيائية. فقد اكتشف فريق ابحاثه في عام 1998، بان الاشعة الكونية تصطدم بالغلاف الجوي الارضي، لينتج من هذا الاصطدام اشعة النترينوز، "والتي تتغير بين اثنين من النكهات، قبل ان تكتشف من الكاشف التكنولوجي."
ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل ستستفيد دول منطقة الشرق الاوسط من هذه التجربة اليابانية الشرقية،& لتتحول من مرحلة فشل الفكر الايديولوجي الثيوقراطي المتعصب والمدمر، إلى نجاحات الفكر البرغماتي العلمي المتفتح والمنتج؟ بل، هل ستحبط شعوب المنطقة الجزء الباطن من العقل البشري، المختص بغرائز الرد الانفعالية، وعواطف الانتقام الحيوانية، وتنشط الجزء المختص بنعمة التفكير، برزانة، وحصانة، وحكمة، لتنسى عاواطف الانتقام، لمعاناة الحروب الماضية، لتتفرغ لتكملة تطوير المنطقة من جديد، من خلال التعليم المتقدم، والانتاجية المبدعة، والتعاون مع الغرب والشرق، لبناء مستقبل الشرق الأوسط الجديد، المسالم والمتعلم والمزدهر؟ ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان