في مدينة البندقية الإيطالية وفي ناحية من نواحيها النائية، بينما كنا نحتسي قهوتنا في أحد المقاهي جلس إلى جانبنا شخص وقال للنادل: "إثنان قهوة من فضلك واحد منها على الحائط"، فأحضر النادل له فنجان قهوة فاحتساه صاحبنا لكنه دفع ثمن فنجانين، وعندما خرج الرجل قام النادل بلصق ورقة على الحائط مكتوب فيها: "فنجان قهوة واحد". وبعده دخل شخصان وطلبا "ثلاثة فناجين قهوة واحد منهم على الحائط"، فأحضر النادل لهما فنجانين فاحتسا قهوتهما ودفعا ثمن ثلاثة فناجين وخرجا، فقام النادل ولصق ورقة أخرى مكتوب فيها "فنجان قهوة واحد".

وفي أحد الأيام كنا في المطعم نفسه، فدخل شخص يبدو عليه آثار الفقر وقال للنادل: "فنجان قهوة من على الحائط". أحضر النادل له فنجان قهوة فاحتساه وخرج من غير أن يدفع ثمنه. بعدها مباشرة قام النادل بنزع واحدة من الأوراق الملصقة على الحائط ورماها في سلة المهملات.

تأثرنا طبعا من هذا التصرف الرائع لسكان هذه المدينة الذي يعكس صورة من أرقى أنواع صور التعاون الإنساني، فما أجمل من أن نجد من يفكر بأن هناك أناس لا يملكون ثمن الطعام والشراب، وترى النادل يقوم بدور الوسيط بين من يملك المال ومن لا يملك المال بسعادة بالغة ووجه طلق باسم، ونرى المحتاج يدخل المقهى وبدون أن يسأل "هل لي بفنجان قهوة بالمجان لأني لا أملك المال"، يكفي أن ينظر إلى الحائط ليعرف أن بإمكانه الطلب وبدون أن يعرف من المتبرع به. كم نحتاج لمثل هذا الحائط في بلداننا العربية والإسلامية. (الراوي: عبد المجيد الفوزان).

تأثرت بهذه القصة الحقيقية، فقلت لنفسي لماذ لا تبحث أكثر فقد تجد قصصا أخرى تعزز هذه الفكرة الإنسانية الرائعة، وفعلا وجدت أكثر من قصة، فقررت أن أشارك القراء الكرام فأخترت لكم الآتي:

القصة الأولى

على مدى أكثر من عشرين عاما، كرس طبيب أمريكي يدعى "جيم ويذرس" من بيترسبورغ في ولاية بنسلفانيا الأمريكية حياته لعلاج المشردين والتخفيف من آلامهم دون أن يتقاضى أي أجر مقابل ذلك، مكتفيا بالسعادة التي يحصل عليها من خلال مد يد العون للمحتاجين. يحمل الطبيب "ويذرس" حقيبته مساء كل يوم، مرتديا ملابس المشردين ويطوف على الأزقة والطرقات بحثا عن الأشخاص الذين تقطعت بهم سبل الحياة، ولم يجدوا مأوى يقيهم برد الشتاء أو حر الصيف ليقدم لهم العلاج اللازم، ما جعله يحمل لقب "طبيب الشارع".&

وكان "ويذرس" قد بدأ بعلاج المشردين منذ العام 1992م جنبا إلى جنب مع "مايك سالوز" وهو مشرد سابق، حيث دأبا على الخروج ليلا كل يوم للكشف على المرضى المشردين وتقديم الأدوية لهم بالمجان. ويقدر "طبيب الشارع" عدد المشردين الذين يعالجهم سنويا بأكثر من 1200 مريض. وفي بداية عمله مع المشردين كان "ويذرس" يملأ حقيبته ببعض العينات المجانية من العققاير التي يحصل عليها من شركات الأدوية، ومع مرور الوقت تطورت تجربته لتتحول إلى مبادرة وطنية تضم العديد من الطلاب والمتطوعين الذين يقدمون خدمة العلاج المجاني للمشردين. لم تقتصر هذه المبادرة الإنسانية على الأراضي الأمريكية بل تعدتها إلى خارج الحدود، حيث تم إستنساخها في أكثر من 90 بلدا حول العالم لتتحول إلى تجربة عالمية يحتذى بها، بهدف رفع المعاناة عن المشردين.

القصة الثانية

مطعم "روزا للبيتزا الطازجة" في فيلادلفيا الأمريكية من المطاعم التي تركت يدا بيضاء على الكثير من المشردين حيث إبتكر صاحب المطعم "ميسون أرتمان" الذي يبلغ من العمر 26 عاما، ومن خلال أوراق الملاحاظات الملونة أسلوبا مميزا وخيريا لمساعدة المشردين، وكانت بداية إنطلاق العمل الخيري تمت بعد أن سلمه أحد العملاء دولارا واحدا إضافيا مقابل ثمن شريحة بيتزا أكلها، وطلب منه أن يكون هذا الدولار ثمنا لشريحة بيتزا أخرى يقدمها لأحد المشردين، فعلق "أرتمان" لافتة تقول : "إنا هناك شريحة بيتزا مجانية لأحد المشردين الذين لا يملكون ثمن أي طعام". ثم بدأ "أرتمان" يشرح لزبائنه الفكرة، حيث يستطيع كل شخص أن يدفع دولارا واحدا مقابل شريحة بيتزا يقدمها للمشردين، ويصبح من حقه أن يدون ملاحظة لطيفة للمشردين يعلقها على جدران المحل.&

وقد نجحت هذه الفكرة بشكل غير مسبوق، حتى أنه خلال 10 أشهر فقط من إبتداء الفكرة إشترى زبائن المحل أكثر من 8400 شريحة بيتزا للمشردين، بما يعادل 40 شريحة يوميا تقريبا. ما كان يلفت نظر الزبائن والمارة لهذا المطعم هو كثرة أوراق الملاحظات التي تغطي جدرانه، وقد كتبت عليها عبارات جميلة متبادلة من قبل المتبرع والمشرد المستفيد. أما أجمل جزء في هذه القصة هو أن المتبرعين لم يكونوا كلهم عملاء أغنياء أو حتى متوسطي الحال، بل كان من بينهم بعض المشردين الذين دفعوا مقابل شرائح بيتزا لمشردين آخرين.

ما دفعني لكتابة هذه المقالة بطريقة سرد القصص الحقيقية هو ما رأيته بأم عيني قبل حوالي أسبوع، حيث كنت جالسا في أحد المقاهي - "كوستا" - أحتسي القهوة، ودخل شخص تدل هيأته ولباسه على أنه إنسان فقير يعاني شظف العيش، وأخذ يلتفت يمينا وشمالا وهو يتفحص وجوه الزبائن الجالسين بطريقة غريبة تلفت النظر. بدأت أراقبه من حيث لا يشعر، وبعد حوالي ثلاث أو أربع دقائق إقترب من أحد الزبائن وانحنى قليلا وهمس في أذنه. مد الزبون يده في جيبه وأخرج محفظته وسلمه مبلغا من المال، فتوجه إلى النادل وطلب فنجان قهوة وجلس يحتسيه على إحدى الطاولات، وقد إنفرجت أساريره وبانت عليه آمارة الرضا والراحة النفسية، ثم غادر المقهى بعد حوالي نصف ساعة وهو يبتسم بإستحياء. قلت في نفسي: سبحان الله، ما أجمل عمل الخير، أربعة دولارات فقط هي قيمة فنجان القهوة أدخلت البهجة والسرور في قلب إنسان يعاني شظف العيش.&

القصص الثلاث التي ذكرتها أكدت لي أن إبداع الأمم المتحضرة لا يقتصر على العلوم والإختراعات التي التي غيرت حياة الناس للأفضل وفتحت لهم آفاقا جديدة، بل تعدتها إلى الإبداع في إبتكار طرق إنسانية لفعل الخير، تحفظ كرامة الفقراء والمحتاجين من ذل سؤال الناس.&

لماذا لا نحذوا حذوهم في نشر ثقافة الإهتمام بالغير والشعور به؟ فمساعدة المطاعم والمقاهي في توفير فناجين القهوة والوجبات الخفيفة للمحتاجين بهذه الطرق الإنسانية لا تكلف كثيرا، وتخفف من معاناتهم وتدخل البهجة والسرور في أنفسهم. كما أنها قد تحد من تبذيرنا وإسرافنا. هل نرى قريبا مثل هذه اللافاتات معلقة على جدران المطاعم والمقاهي في الدول العربية والإسلامية؟ إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.&

&