العرب في حاجة إلى تركيا، وتركيا في حاجة إلى العرب. ولكن، أي عرب في حاجة إلى تركيا وأيّ تركيا يحتاج العرب إليها؟
العرب الذين في حاجة إلى تركيا هم عرب الإعتدال الذين يقاومون "داعش" ويقاومون في الوقت ذاته كلّ الدواعش الأخرى، خصوصا تلك التي تشجّعها وترعاها ايران، أكان ذلك في سوريا أو العراق...أو لبنان. تركيا التي يحتاج إليها العرب، هي تركيا التي تلتزم سياسة عقلانية بعيدا عن كلّ نوع من التهوّر والمزايدات التي لا تصبّ سوى في زيادة التوتر في المنطقة وتساهم في تشجيع التطرّف.
قبل كلّ شيء من المفيد أن يقوم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، في هذه الأيّام بالذات، بزيارة للملكة العربية السعودية للقاء الملك سلمان بن عبد العزيز وعرض أوضاع المنطقة معه. المفيد أكثر أن تأتي زيارة إردوغان للمملكة مباشرة بعد الزيارة التي قام بها للرياض الرئيس عبد الفتّاح السيسي.
إذا كانت زيارة السيسي والإستقبال الحار الذي حظي به في الرياض كشفا شيئا، فإنّهما كشفا أن العلاقة بين الرئيس المصري والعاهل السعودي الجديد على ما يرام وأنّ لا تغيير في موقف& الرياض من القاهرة. هناك قناعة مشتركة بأنّ أمن مصر من أمن الخليج وأمن الخليج من أمن مصر.
هذا ما يفترض أن يستوعبه إردوغان الذي يبدو واضحا أنّ لديه مشكلة مع مصر، خصوصا مع السيسي بالذات، وذلك بعد الثورة الشعبية التي أطاحت حكم الإخوان المسلمين والشخص الذي أوصلوه إلى الرئاسة، أي محمّد مرسي.
هناك شراكة مصرية ـ سعودية في الحرب على الإرهاب. هناك محاولة جدّية لتشكيل "قوّة عربية مشتركة" لمحاربة الإرهاب الذي بات يجسّده تنظيم "داعش" والذين يوفّرون حاضنة لـ"داعش"، أكان ذلك في سوريا أو في العراق.
لم يكن للبحث في تشكيل هذه القوّة العربية المشتركة أن يأخذ منحى جدّيا& لولا الجهود التي بذلها الملك عبدالله الثاني الذي استقبل حديثا أمير الكويت الشيخ صُباح الأحمد في عمّان، ثم زار الرياض للقاء الملك سلمان، قبل توجّهه إلى القاهرة من أجل محادثات مع السيسي.
أين تقف تركيا من هذه الجهود العربية الهادفة إلى& مباشرة حرب طويلة المدى على الإرهاب يصفها العاهل الأردني بأنّها "الحرب العالمية الثالثة"؟
إلى الآن، لم تقرّر تركيا ـ إردوغان ما الذي تريده. تريد الشيء وعكسه. تريد الإستفادة إلى أبعد حدود من ايران ومن العقوبات الإقتصادية المفروضة عليها، وتريد في الوقت ذاته اتباع سياسة خاصة بها وبأجندتها، إن في سوريا أو في العراق. في هذين البلدين العربيين اللذين يوفّران حاضنة لـ"داعش"، هناك سياسة ايرانية تتعارض تماما مع السياسة التركية!
نعم، هناك حاجة عربية إلى تركيا وحاجة تركية إلى العرب. هذا واقع لا يمكن تجاوزه، خصوصا في ظل وجود قوتين عربيتين، إلى جانب تركيا، هما ايران واسرائيل تعملان على سدّ كلّ فراغ يمكن أن ينجم عن الضعف العربي وعن غياب التوازن في الإقليم.
في نهاية المطاف، يظلّ الموقف من مصر الدليل على مدى جدّية تركيا في لعب دور إيجابي يخدم الإستقرار في المنطقة. هذا لا يعني أنّ مصر هي المكان الوحيد الذي تستطيع تركيا من خلاله إثبات أنّها شريك بالفعل في الحرب على الإرهاب.
هناك أماكن أخرى يمكن لتركيا أن تظهر فيها وعيا لخطورة ما تواجهه المنطقة بدل السعي إلى بيع الأوهام خصوصا إلى الفلسطينيين كما حصل وما زال يحصل منذ سنوات عدّة بسبب الحصار الخانق المفروض على قطاع غزّة.
هناك أولويات لا مفرّ أمام تركيا من التعاطي معها. بين هذه الأولويات أن لا فائدة من السعي إلى رفع الحصار عن غزّة، وهو حصار ظالم، من دون التخلّص من فكرة أن "حماس" لا تريد بالفعل الإنتهاء من الحصار. السياسة الإسرائيلية تجاه القطاع تتقاطع مع سياسة "حماس" التي تريد السلطة ولا شيء آخر غير السلطة، حتّى لو أدى ذلك إلى نشر البؤس في غزّة. الأولوية لدى "حماس" هي لتغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني كي يصبح مؤمنا بثقافة الموت التي لن تأخذه إلى أي مكان.
كيف يمكن لتركيا أن تدعم سياسة من هذا النوع، أم يكفي أن تكون "حماس" جزءا من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين كي يصبح كلّ شيء مبرّرا؟
تقاتل مصر الإرهاب على غير جبهة. هناك جبهة سيناء وهناك جبهة ليبيا، فضلا عن جبهة الداخل. ولذلك يُفترض في دولة مثل تركيا تطمح إلى أن تكون نموذجا للديموقراطية في المنطقة تقديم نفسها بطريقة أفضل، إن في ليبيا أو في سيناء أو داخل مصر.& نقطة البداية في امتلاك ما يكفي من الشجاعة للإعتراف بالحاجة إلى نمط جديد في التفكير يعكس طلاقا مع الماضي وكلّ ما ساده من أخطاء.
كلّ ما فعلته تركيا هو تعقيد الوضع في ليبيا عبر تقديم مساعدات لمجموعات، أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها متطرّفة. أما في غزّة، فقد أوصلت الفلسطينيين إلى طريق مسدود، خصوصا بعدما اعتقد هؤلاء أن في استطاعتهم تغيير المعادلة مع اسرائيل بفضل دعم إردوغان والأسطول الذي ارسله لفك الحصار في أيّار ـ مايو ٢٠٠٩.
الأسوأ من ذلك، السياسة التركية في سوريا. إتخّذ إردوغان منذ البداية موقفا سليما مؤيّدا للشعب السوري الذي يتعرّض لحرب إبادة يشنّها عليه نظام أقلّوي بدعم ايراني وروسي مكشوف. لم تكن هناك أي شائبة في الخطاب السياسي التركي. لكنّ النتيجة أنّ انقرة دخلت في لعبة المماطلة والتسويف. خدمت اللعبة كلّ من يريد تفتيت سوريا ككيان من جهة وخدمة التنظيمات المتطرفة من جهة أخرى.
مرّة أخرى، تركيا حاجة عربية، خصوصا في ضوء فقدان التوازن الإقليمي. في استطاعتها المشاركة في استعادة بعض هذا التوازن في حال تخلّى رئيسها عن عقد كثيرة، على رأسها عقدة مصر. صحيح أنّه إخواني يتوجّب عليه الوقوف مع جماعته. لكنّ الصحيح أيضا أن لا قصة نجاح إخوانية، في الجانب الإقتصادي، إلّا في تركيا. هذا النجاح ليس عائدا في الضرورة إلى الإخوان، بمقدار ما إنّه عائد إلى المجتمع التركي الذي استطاع تطوير نفسه.
في كلّ مكان آخر حلّ فيه الإخوان، حلّ الخراب والجهل وانتشر التطرّف ومعه الإرهاب.
ماذا فعل الإخوان في غزّة وماذا فعلوا في مصر وماذا فعلوا في ليبيا وتونس واليمن...حتّى لا نتحدّث عن أماكن وبلدان أخرى؟&&
&