نوعية المصالحة مع "الإخوان المسلمين"، التي تدفع لها الولايات المتحدة الآن، وقد ينساق لها السيسي مرغماً أو راغباً، ستكشف طبيعة خلافه معهم، إن كان خلافاً حول كرسي الحكم، أم حول حاضر مصر ومستقبلها. إن كان يسعى لمجرد استقرار حكمه، فسيهرع إلى أي فرصة لمصالحة الإخوان، ليقفوا في ظهره مع السلفيين. وإن كان يسعى لتطور مصر وتحديثها، فالطبيعي أن يسعى لردع كليهما، كما تم ردع النازية والفاشية. احتضان السلفيين يشير إلى أن ما يحدث في مصر الآن، هو صراع على السلطة، يدير ظهره لقضية الحداثة والتحرر. فالدولة التي تسمح لأمثال ياسر برهامي باعتلاء المنابر، وتستأذن جهاتها الأمنية السلفيين والغوغاء، في بناء كنيسة أمر بتشييدها رئيس الجمهورية، هذه الدولة ليست دولة مقاومة، بل منتجة ومشجعة وخانعة للإرهاب. المتاح ينبغي ألا يكون "عودة الإخوان"، ولكن "العودة عن الإخوان"، بأن يعود من لديه بقية من شرف منهم، إلى الانتماء للوطن والإنسانية.
التفاوض والتفاهم من أجل البشر، الذين سبق أن انتموا للإخوان المسلمين، يختلف عن التفاوض من أجل مستقبل "عصابة الإخوان المسلمين" فكراً وتنظيماً. فالبشر هم مصريون، لهم حقوق المواطنة وحقوق الإنسان، في ظل سيادة القانون. أما "الجماعة" فكراً وتنظيماً، فهي وفق أدبياتها وأيديولوجيتها عدوة للوطنية، ووفق ممارساتها وجذور أفكارها عدوة للحضارة والإنسانية. وهي هكذا لابد وأن تصنف ضمن ما ينبغي محوه من الوجود، كما تم محو أمراض البلهارسيا والدرن وشلل الأطفال.
موقف أمريكا المصمم على ضم "الإخوان المسلمين" للعملية السياسية في مصر، يسانده أن المؤشرات في الشارع المصري، وإن كانت تشير إلى تعاظم الرفض الشعبي لحكم "الجماعة"، إلا أنه لا يوجد ما يشير إلى تغير في الفكر السائد شعبياً، رفضاً لفكر وأيديولوجيا الإخوان. بما يعني بقاء الأساس الذي قامت عليه شعبيتهم، الأمر الذي يبقي على نظرية، أنهم الأقدر على قيادة الجماهير، رغم فشلهم الذريع في تجربة الحكم. . لجوء النظام الحاكم الآن إلى الاستعانة بالسلفيين، بل والجهاديين (التائبين)، هو خير دليل على صحة ما تذهب إليه أمريكا، وما نستكرهه نحن. فتمسك القائمين على الحكم بالسلفيين، لا يأتي فقط من القرب أو عدم الممانعة لأفكارهم المتخلفة البدائية، ولكن قد يأتي أيضاً عبر فلسفة برجماتية شوهاء، تدفع للعب بشعبيتهم، كورقة رابحة للسيطرة على الجماهير، التي تعد السلفيين رجال الله الصالحين والأولى بالاتباع.
لكل مفهوم مضمونه، ولكل اصطلاح محموله. مفهوم "الاستقرار" يعني بقاء مكونات الواقع على ما هي عليه، وتوفير فلسفة ومنهج وإدارة ناجحة لتفاعل عناصره. إنه "فن الممكن"، أو استخلاص أفضل النتائج، من المقومات الموجودة بالفعل على الأرض أياً كانت. هذا يؤدي بالفعل إلى "تغيير" أو "تحسن" في الحالة، لكنه تغيير جد محدود، إذا كانت مقومات الواقع تتضمن عناصر سلبية، ذات وزن كبير في معادلة القوى، كما في حالة مصر وشعوب الشرق الأوسط بعامة، حيث تكاد المقومات السلبية تقف وحدها في الساحة.
أما مفاهيم مثل "التطور" و"التحديث" و"الثورة"، فيجمعها العمل على تغيير موازين القوى بين عناصر الواقع، فتحارب العناصر السلبية، لصالح تدعيم وترويج وتقوية العناصر الإيجابية. وهذا الخيار لا يتحقق تعسفياً، وإنما تمليه أيضاً حقيقة الواقع، وحجم القوى الساعية للتغيير، ودرجة وضوح رؤياها للبديل المفترض، مع توافر إرادة التغيير، والاستعداد لدفع الثمن، الذي عادة ما يكون باهظاً على الشعوب، إذ لا يتم مثل هذا التغيير، إلا عبر صراع مجتمعي، نادراً ما يكون سلساً وسلمياً.
واضح في ظل حالة الركود، بل والتدهور الفكري والأخلاقي في مصر الآن، أن أقصى ما يمكن أن نطمح إليه هو "الاستقرار". إن صح هذا، فلا مهرب من "مصالحة إخوان الخراب"!!. . لكي تعرف "مصر رايحة على فين"، لا تحتاج لتحليلات سياسية واستراتيجية. فقط تأمل أشكال وأزياء وسلوكيات الناس في الشارع. لا تلوموا أمريكا، ولكن لوموا التناقض الذي تعيشون فيه، حين تنادون بسقوط "حكم الإخوان"، فيما تسيرون حرفياً بموجب مقولاتهم وأفكارهم!!. . سياسات أمريكا والعالم الغربي تجاه الشرق الأوسط فاشلة وحمقاء. لكن من العار على من هم المشكلة، أن يشيروا بالإدانة لمن فشل في حلها، فشعوب الشرق الأوسط لا تعاني مشكلة، وإنما هي ذاتها المشكلة. تطور الكائن البشري ليكون "إنساناً"، مع تمكنه من إقامة علاقات إيجابية مع الآخر. وما يحدث الآن في منطقتنا، هو إرتداد الملايين، إلى حالة كائنات تنتمي بيولوجياً فقط إلى البشر، وليس إلى الإنسانية.
[email protected]
&