&
حين يقودنا الفضول وحيرة الأسئلة الملحة إلى أن نقرأ ونطلع أكثر على ما يعرف بتنظيم الدولة الاسلامية المعروف اختصارا باسم داعش وعن إجرامه ومواقفه وأعلامه وإعلامه نجنح فوراً إلى الاستنتاج بأن معظم عناصرها جهلة متخلفون لا خلفية ثقافية أو علمية يتسلحون بها.
ولكن هذا التنظيم لا يقتصر فقط على الجهلة بل يضم أيضاً أنصاف المتعلمين أو جامعيين تغلب عليهم اختصاصات العلوم الصحيحة& والوثوقية. واللافت أننا لم نسمع بداعشي صاحب خلفية تستند على العلوم الانسانية النسبية .
نكاد نجزم أن لا خلفية ثقافية أو حسا نقديا& لديهم تقريبا يؤهلهم لفهم الواقع وتمثل مشكلاته، بهدف استنباط حلول وبدائل موضوعية واقعية. لا غيبية لا أساس لها غير النوستالجيا إلى ماض ملتبس ومقولات السلف الصالح& ودولة الخلافة وطهرانية المدينة الفاضلة التي لم توجد يوما في غير أذهانهم.
&
وحين نسمع أو نقرأ عن فتاوى داعش يعترينا شعور غريب، مزيج من الاستغراب والسخرية السوداء وبعضنا يشاطرها على صفحات التواصل الاجتماعي من& باب الاستهزاء بجهل أصحابها ومروجيها وشيوخهم ومقولات تكفيرهم للكل تقريبا وتشديدهم على أنهم وحدهم الفرقة الناجية وكل الأغيار على ضلال بيّن.
&
ولكن الراية السوداء بمعناها المجازي والحقيقي على حد سواء أو راية العقاب كما تعرف في التاريخ الإسلامي تنتشر على أراضينا المنكوبة ترفعها سواعد شابة من سوريا إلى اليمَن إلى ليبيا إلى العراق. و تتكاثر& كطفيليات ناتجة عن مرض معدٍ لا علاج له في المدى القريب على ما يبدو في ظل سياسات محلية فاشلة أنتجت كل هذا الفائض من الجهل والعنف وثقافة الدم والانتقام باسم الله ووكلائه الجدد وسياسات دولية ربما وجد بعضها في هذه المجاميع المسلحة المفرغة من كل وعي ضالته لمزيد من التفتيت في المنطقة وتأخير نهضتها الموعودة والمجهضة من القرن التاسع عشر.
&
حسب تشارلز ليستر الباحث في مركز "بروكينغز" في الدوحة& فإن عددمقاتلي "داعش" في سوريا يبلغ حوالى سبعة الاف، وفي العراق حوالى ستة الاف. ولا توجد مصادر اخرى تساعدنا على التحقق وتقليب صدقية هذه الأرقام والتدقيق في صحة هذه المعطيات المربكة.&
ويبلغ الامر حد المفاجأة الكبيرة حين تخبرنا هذه المعطيات بانضمام عَدَد من الأطباء والعلماء إلى تنظيم الدولة الإسلامية وهم حتما لا علاقة لهم بالفقر االذي يفسر به البعض كثرة الملتحقين بهذه التظيمات . ثمة إذن خلل ما في كل مسلماتنا واجتهاداتنا في تفسير هذه الظاهرة الغريبة التي باتت تطرح& تحديا حقيقيا أمام العلماء والباحثين والسياسيين وكل المعنيين بفك شفرة هذا اللغز العربي الاسلامي.
&كما تثير عدداً كبيراً من علامات الاستفهام حول أسباب انضمام فئات عمرية واجتماعية معينة& وخلفياتهم الاجتماعية وعلاقاتهم بمحيطهم ومدى اندماجهم الاسري والاجتماعي ونظرتهم لدورهم في حياة اليوم ، العيش من أجل إعلاء قيمة الحياة والبناء والتشييد أم الموت في عملية انتحارية تهدم البشر والحجر.
وليس هذا بحكر على الفضاء الجغرافي العربي الاسلامي بل يحدث الأمر أيضا في دول وقارات بعيدة .
&
فعلى سبيل المثال كان قد " أعلن وزير الشؤون الخارجية والهجرة الأسترالي بيتر دوتون عن ضرورة قرع ناقوس الخطر في أستراليا، بعدانضمام& طبيب أسترالي يدعى طارق كاملة
&(29 عاما& ) إلى تنظيم "داعش" في سوريا.وحذر الوزير من تنامي ظاهرة هجرة الأستراليين من ذوي المستوى التعليميالرفيع للانضمام إلى التنظيم. وقال أن المعلومات المتعلقة بانضمام طبيب أسترالي إلى التنظيم تثير قلقا
شديدا، خاصة أنه شخص تلقى تعليما عاليا.ومع ذلك استسلم لرسالة "الشر من مجموعة الموت" وهو شيء لايمكن
&التسمامح معه، حسب تعبيره.
هنا لا بدّ من توفر دراسات علمية ونفسية و اجتماعية تساعدنا على فهم أسباب التحاق أفراد حاصلين على شهادات علمية عالية بدولة الجهل والتخلف والموت المعمم.
&
يبدو أن قسما كبيرا من هؤلاء الأفراد رغم& حصولهم على شهادات عالية لم يشعروا بالانتماء في مجتمعاتهم وعانوا من الوحدة أو كانوا مهمشين إلى حد بعيد نفسيا لا اجتماعيا فحسب. فالوحدة النفسية كما وصفها روكاتش "حالة إنسانية حتمية يتعذر الهروب منها ويعاني من آلامها بدون استثناء الحكيم والجاهل".
وقد عملت داعش بخبث على تقديم فرصة الانتماء والفخر والقيادة لهؤلاء الشباب. وهنا يمكننا الإستشهاد بقول عالم النفس الأمريكي ابراهام ماسلو بأن الشعور بالوحدة النفسية هو سلوك ينتج بسبب عدم إشباع حاجات الحب والاحترام والانتماء. استغل التنظيم إذن نقطة ضعفهم النفسية هذه وأعطاهم& قيمة ووزناً في صفوفه وما به يفتخرون ( حتى السلاح هو مصدر فخر نفسي وشعور بالقيمة والوجاهة لدى المهمشين) وقدم لهم هوية جديدة أخرجتهم من وحدتهم النفسية وحررتهم من أغلال ضعف وهوان وفشل اجتماعي وقلة الرضا على الذات والفخر بمنجزها ، كانوا يعانون من تداعياته .
&
ويعود شعور الشباب بالوحدة وعدم الانتماء لعدة أسباب أبرزها انشغال الآباء والأمهات بأعمالهم في ظل عصر التكنولوجيا السريع والمجتمع الفرداني وعدم اهتمامهم بنمو أبنائهم النفسي. فمعظم الأهل يعتبرون أن حصول الأبناء على شهادات علمية عالية هو تتويج لنجاحهم كآباء متناسين الجانب النفسي وأهميته فتتكون هوية الفرد دون أي إحاطة نفسية أو توازن عاطفي مطلوب.
أو قد يكون التعنيف الأُسَري أو المدرسي الناتج عن المجتمعات العربية الأبوية المريضة أو أساليب التعليم التقليدي التلقيني سبباً في نمو رغبة الانتقام عند الأبناء وتفريغ طاقة الوجع المكبوت على الآخر.. فمثل هذه المجتمعات
&المطبوعة بالعنف ستنتج لا محالة جيلاً من الوحوش الادمية المشوهة يتمثل في تنظيم كارثي كداعش.
تعمدنا خلال استعراض بعض أوجه جاذبية التنظيم أن لا نركز كثيراً على الأسباب السياسية وقد أفاض القول فيها كثيرون، إلا أن السياسة وفشل أطروحاتها ومشروعها تبقى السبب الابرز حتما فهذا الشباب النافر إلى ما يعتبره جهادا وحياة أخروية أبقى واجمل تعوضهم عن خيبات كثيرة في هذه الحياة التي لم تمنحهم فرصة المشاركة في تدبير الشأن العام والخوض في الحياة السياسية ، وفد استأثرت بها وجوه مكررة ومشاريع تعيد انتاج الفشل، حينها يصبح الجهاد الهدف والوسيلة للارتقاء والتعويض ، دون ان ننسى خطاب المنابر في المساجد والبرامج في الفضائيات التي تقصف عقولهم الحائرة يوميا بخطاب ديني موغل في التشدد وتمجيد مقولات الجهاد ، خدمة لأجندات بعض الدول وسياساتها الخارجية لا حبا في تسفيرهم بسرعة وبتذكرة ذهاب بلا عودة الى الجنة الموعودة والحور العين ، وكل تهويمات ووعود المقابل الأخروي المجزي لمن يقتل الآخرين بقتل نفسه .
&
تنظيم داعش في المحصلة لا يقتصر على كونه ظاهرة سياسية بل يتعدى ذلك إلى ما يمكن تسميته بكارثة إنسانية سنعيش على وقعها الخطر لسنوات قادمة لأنها تعكس إعاقات كبيرة وتصدعات جسيمة في هيكل مجتمعاتنا العربية المريضة .
وقد زادها بؤس السياسة وانحسار الحلم إثر فشل أغلب مسارات الانتقال في دول الربيع العربي باستثناء التجربة التونسية التي لم تعبر بعد إلى شاطئ الأمان بالنظر إلى الأسباب ذاتها.
فإن لم تعمل المنظمات الإنسانية والتربوية على توعية الشباب ومساندتهم في تحقيق ذواتهم في المجتمع الطبيعي سيحاولون أن يعملوا على تحقيقه عبر تنظيمات فاشية خطرة ومريضة وهدامة.

&