لست هنا اليوم في معرض الخوض حول مدى مصداقية التسريبات الأخيرة لوثائق الويكيليكس المتعلقة بالمملكة العربية السعودية، والتي باتت مع ظهورها وتداولها في شهر رمضان تشكل "فوازيراً" للجمهور العربي – وخاصة جمهور مواقع التواصل الاجتماعي – المتعطش دوماً للفوازير طيلة العام! ففيها يلقى فضاءً يتسع لجناحي تحليلاته يُحلّق بها كيفما يشاء بعيداً عن أرض الواقع!
عودة إلى أرض الواقع!.. إذا سلمنا بصدق ما جاء في هذه الوثائق فقطعاً لن تكون - أو غيرها – أول أو آخر "غيت" خرجت و ستخرج من "البيت".. العربي هنا!، ولكن بنظرة حتى غير فاحصة لمضمون هذه الوثائق التي تعلقت ببعض ممارسات سابقة للسياسة الخارجية السعودية، وتوقيت ظهورها والسعودية تعيش منذ تسلم الملك سلمان تحولاً سياسياً مكوكياً – خاصة في السياسة السعودية الخارجية - قد يتماهى وسرعة المكوك الذي إنطلق فيه ابنه سلطان إلى الفضاء!، بدءً من قيادة السعودية لتحالف عاصفة الحزم في اليمن، ووصولاً إلى آخر تقارب ولقاء سعودي – روسي، بررته غاية سعودية نووية عبر الوسيلة الروسية! كل هذه التوجهات السعودية المتلاحقة في وقت قصير لا تحتاج بعدها أن "ينبئك مثل خبير" أن مثل مضمون وتوقيت تسريبات الويكيليكس لا تعدو كونها إحدى أدوات "الحرب النفسية" التي تستهدف كبح جماح السعودية من التحول إلى قوة إقليمية مؤثرة في المنطقة وهو حقها "الجيوسياسي" على أقل تقدير منذ "نبوءة" "صامويل هانتنغتون" في عام 1999، عندما وضع في مقاله "القوة العظمى الوحيدة"، تقديرات جيوسياسية واستراتيجية صنّفها على طريقة الدولة والدولة الند التي رأى أنها تلعب وستلعب أدواراً مؤثرة كقوى عظمى أو إقليمية ستشكل مستقبل خارطة السياسة الدولية، فقد صنّف فيه السعودية كقوة إقليمية مؤثرة قادمة في المنطقة بمقابل الند "إيران"، والحديث حول مرتكزات وواقعية هذا التصنيف يطول هنا ويحرف مسار المقال.
ليس بدعاً من القول أو نزوحاً نحو "نظرية المؤامرة" إذاً إن قلت بأن السعودية باتت اليوم تواجه "حرباً نفسية" اكتملت عناصرها من ناحية استهداف "الفكر" و "العقيدة" و "الشجاعة" و "الثقة"، عبر "بروبوغندا ويكيليكس" الأخيرة، وموجهة من قبل جبهات عدة على رأسها إيران وخوادمها وتحديداً حزب – سامحني! - الله (الذي استفرد مؤسس موقع "ويكيليكس" "جوليان أسانج"، بمقابلة مع أمينه العام – كأول وأوحد شخصية عربية - قبل قرابة العامين.. أبدى خلالها أسانج إعجاباً شديداً بالشاطر حسن!)، وفي الداخل والمحيط السعودي، كتنظيم "داعش" الإرهابي الذي سيجد فيها فرصة مواتية للنيل من غريمه "العقدي"، وتركت الأفضل – خبثاً – للنهاية.. أمريكا!، كل هذه الأطراف – وغيرها – أزعجها وأربك مصالحها استيقاظ "المارد السعودي" في المنطقة فتوازنت معاً – بقصد أو بغير قصد - لتشكل جبهة "الحرب النفسية" ضد السعودية، في ذات الوقت الذي تقود فيه السعودية جبهة القتال ضد الحوثي – خادم إيران - في اليمن... لتكتمل بذلك معادلة "الحرب الشاملة"!&
أهم أدوات نجاح "الحرب النفسية" في مجتمع ما تكمن في سلوك أفراده إبان شن هذه الحرب وتحديداً ما اسميته "لغو الرأي العام"، وهذا "اللغو" هو ما نراه اليوم ينتشر عبر وبين "دهماء" مواقع التواصل الاجتماعي، والمستهدف طبعاً المواطن السعودي، وكل مواطن لدولته شرف المشاركة في عاصفة الحزم، والهدف – المستتر – من وراء ذلك زعزعة الثقة واليقين بمساعي السعودية وتحالف "الحزم" نحو إنقاذ اليمن المُغتصب "إيرانياً"، والأنكى من ذلك زعزعة روح الانتماء لدى الفرد – بالدرجة الأولى - السعودي.
وضع مؤسس قواعد "الحرب النفسية" في القرن العشرين، وصاحب أول كتاب حمل التسمية، الأمريكي/ بول لاينبارجر، إسلوباً نموذجياً في التعاطي مع أهم أدوات "الحرب النفسية"، وهي "البروبوغندا"، أسماه “STASM”، وهي تسمية مختصرة مشتقة من خمس كلمات: Source – المصدر، Time – الوقت، Audience – الجمهور، Subject - الموضوع، Mission – المهمة. وعلى الرغم من قِدَمِ هذا النموذج الذي يعود أول استخدامه في خلال الحرب العالمية الثانية، إلا أنه من ناحية المضمون صالح للاستخدام في أي زمان ومكان وُجِدت فيه "البروبغندا"، وبُغية عدم التفصيل المُخل حول كيفية الاستخدام الناجع لهذا النموذج كاملاً وإجرائه على "بروبغندا ويكيليس" الأخيرة كمثال، كون ذلك سيتطلب ملأ كل خانة من الخانات الخمس بالمعلومة/ المعلومات الصحيحة ترافقها تساؤلات وتحليلات محددة حول كل قسمٍ في هذا النموذج، لذا فإنني ساكتفي في مقالي هذا للتوضيح بمثال مقتضب حول أهم قسم من أقسام النموذج الخمسة وهو "المصدر". وفي مثال "تسريبات وثائق ويكيليكس" نبدأ بمصدر الوثيقة عبر معرفة طبيعة المصدر، لنجد أن هناك "مصدر ظاهري" وهو، "موقع ويكيليكس" الذي قام بنشر التسريبات، وثم هناك "مصدر أول" في الاستعمال أي المصدر الذي استعمله لأول مرة (قد تكون صحيفة أو قناة تلفزيونية أو موقع الكتروني معين...إلخ). وأخيراً هناك "مصدر ثاني"، وهو المصدر الذي استغل التسريبات للاستشهاد بها أو اقتباس عبارات منها (مثال، وسائل الإعلام المختلفة وبخاصة مواقع التواصل الاجتماعي). بعدها تُطرح مثل هذه التساؤلات التحليلية حول كل مصدر مما ذُكر، أولاً، "المصدر الظاهري"، من أين جاء الموضوع فعلاً؟ من هو مُسرِّب الوثائق؟ من هو الشخص أو الهيئة أو الدولة التي تولّد الموضوع باسمها؟ ما هو المصدر الذي يزعم بأنه نقل عنه؟... ثانياً، "المصدر الأول والثاني"، ما العلاقة – إن وجدت - بين مصدر الاستعمال الأول ومصدر الاستعمال الثاني (والمألوف أن تكون هذه العلاقة في الشكل الذي يجيء فيه الاقتباس)؟ هل هناك أي تعديل بين الاستعمال الأول والاستعمال الثاني إذا كان النص معروفاً في الحالتين؟ (أي هل حُذِفت فقرات؟ هل هناك تعديلات في النص؟ هل حدث أي دمج مع مواد أخرى؟ هل هناك تزييف يبدو متعمداً؟ ما التأثير الذي يحدث نتيجة للنقل من لغة إلى لغة أخرى؟).. انتهى. وللعلم فبقية الأقسام الأربعة هي أسهل في كيفية التعاطي معها إذا ما أُجيد التعاطي مع "المصدر" أولاً بالحرفية التحليلية اللازمة.
إن كان هناك من إجراء يُنصح أن تتخذه المملكة العربية السعودية اليوم – وليس غداً ! - ممثلة في وزارة الدفاع، وذلك للتعاطي المهني "المُقنن" مع خطر استفحال مثل هذه "الحرب النفسية" أو غيرها، فهو في إتباع النموذج البريطاني الأخير عندما قامت وزارة الدفاع البريطانية قبل فترة قريبة بالإعلان الرسمي عن تشكيل أول "لواء الكتروني" في العالم تابع للجيش البريطاني، والذي تتركز مهمته الرئيسية في صد أية "حروب نفسية" تُشن ضد بريطانيا وخاصة عبر مواقع التواصل الاجتماعي! هذا وبريطانيا ليست على "خط النار" – الواقعي أو الافتراضي! - كما هي السعودية اليوم!
&
يقول "أبو البروبغندا" ومؤسس علم "العلاقات العامة الحديثة"، الأمريكي اليهودي/ إدوارد بيرنز، "البروبغندا الوحيدة التي تتجه لإضعاف فرص نجاحها ونحن في عالمٍ أصبح أكثر تعقيداً وذكاءً، هي تلك البروبغندا التي لا تكون حقيقية أو اجتماعية"!
&
التعليقات