من تونس إلى مصر ومن العراق للبحرين ومن الكويت لليمن.. وهلم جرا، المؤشر واحد لا ثاني له، مجتمعات مؤهلة بامتياز لتصنيع الارهاب وتجنيد أبنائها بل وتصديرهم للقيام بأبشع العمليات الارهابية، مجتمعات تقبض على مقدراتها منظومات فساد تتركب من مسئولين كبار يتم ابتزازهم أو احتضانهم من قبل أصحاب رؤوس الأموال ورجال الأعمال، مجتمعات مجرد أسواق لمن يملك القدرة على الشراء، تعيش تحت وطأة الجشع والطمع والاستهلاك والفقر والقمع والمرض والموت، لا أحد يستثمر فيما ينفعها ويصلح أحوالها ويفتح الباب للعلم والثقافة والتنوير، لا أحد يؤمن بالعدل والحرية والكرامة، كل شيء يشترى فيها بالمال والنفوذ، وجل الاستثمار يصب في التشويه تشويه القيم والمبادئ والمفاهيم والثوابت الانسانية ويصب في التجويع والنهب الممنهج للمقدرات والثروات، فما الذي ننتظره من أبناء هذه المجتمعات سوى أن تبيع عقولها وقلوبها وضمائرها للتكفير ولشيطان جماعات الاسلام السياسي الارهابية، إن الصورة لمن يرى كيف تفكر قطاعات واسعة من الشباب صورة مأساوية، صورة "داعشية"، صورة "إرهابية"، لقد تم استنزاف الأمل كما استنزف الدين والعلم والتعليم من شرائح واسعة النطاق من أبناء هذه المجتمعات، الملايين تعيش الجهل والفقر والجوع والقمع والنقمة واليأس والاحباط، الأسباب كثيرة ومتعددة ومعقدة وملتبسة، نعم هذا صحيح، لكن السبب الرئيسي والجوهري يتمثل في أن قلة قليلة تملك كل شيء ولا تعطي شيئا بل تصر على الفساد دينا ونهجا وقدوة.
قبل أن نسأل ما الذي دفع يطالب للماجستير في الهندسة إلى قتل 40 سائحا أجنبيا في أحد فنادق مدينة سوسة التونسية؟ وقبل أن نسأل ما الذي يدفع الشباب العربي للاعجاب بتنظيم الدولة داعش ويسعى للانضمام إليه بل يتطلع إلى أن يكون فردا منه؟ وقبل أن نسأل ما الذي يدفع بـ 12 طالبا في كلية الطب بالسودان إلى السفر لتركيا والانضمام إلى "داعش" دون إذن من ذويهم، قبل أن نسأل ما الذي يدفع شاب سعودي أن يسافر من بلده لبلد آخر لكي يفجر نفسه في مسجد أيا ما كان شيعيا أو سنيا فبيوت الله كلها واحدة، وقبل أن نسأل ما الذي يجعل شبابا مراهقا في مصر يفكر في تكوّين خلايا وتنظيمات سرية ويقوم بعمليات قتل وحرق وذبح، قبل أن نسأل ما الذي يبرر لهذا أو ذاك تفجير بيت من بيوت الله سواء كان من يؤمها شيعي أو سني؟
قبل أن نسأل عن ذلك وغيره من التساؤلات الموجعة، لابد أن نسأل أنفسنا ما الذي جنيناه في حق هؤلاء؟ لقد وفرنا لهم كل السبل للفرار للشيطان والارتماء في أحضانه، في أوقات ـ نذكرها جميعا ـ كنا ندربهم ونمد لهم اليد بالسلاح ونرسلهم للقتل والذبح والتفجير، وفي كل الأوقات ـ حتى الآن ـ نشحنهم بالأحقاد والسموم ونطلق فيهم الكرهية والغل باسم الدين باسم الله ورسوله، وفي أوقات مارسنا ضدهم القمع بكل أشكاله وألوانه وسلبناهم حقوقهم في حياة حرة كريمة وعادلة، والأخطر والأسوأ أننا خضنا معهم لعبة الدين ولاعبناهم به مثلنا مثل الشيطان، استخدمنا الدين واستخدموه، ولكن الفرق بيينا وبين الشيطان أن الشيطان متغلغل ويجري في مختلف طبقات المجتمع مجرى الدم في العروق ونحن نعيش في أبراج عاجية وجزر معزولة.
متى نفيق، أو بالاحرى متى يفيق قادتنا إلى أن المجتمعات لم تعد تحمل اللصوصية والفساد والظلم والقهر، وأن كل طرائق ووسائل التزيين واللهاء والتفريغ والتسطيح لم تفشل فقط بل دعمت وساندت الأحقاد والغل والاحباط وفتحت الطريق إلى الانضمام لجماعات وتنظيمات الشيطان، وأن الحل ـ طال الزمن أو قصر ـ لن يتحقق دون إعمال الحق والعدل، ومد العيش بحرية وكرامة وإنسانية إلى الجميع، والاستثمار في العلم والثقافة والتنوير، وتنظيف ما راكمته الأنظمة السابقة من قاذورات تقض حتى اللحظة مضاجع الملايين فقرا وجوعا وإحباطا ويأسا.&&&

&