يطالب الإسلام السياسي ومنظرو التدين الفقهي والعقائد، الحياة العصرية بالتصالح مع الدين، على اعتبار أن حماية الدين صون لجوهر الهوية ومصدر السعادة للمجتعات والافراد. خلفية ذلك حرص كبير على مصير التدين وقداسته والنظر إليه بإطلاق غير قابل للجدل، كمصدر للخير.
&
الامر نفسه ينطبق على بعض دعاة الاصلاح الديني ممن يتحدثون عن جعل الدين عصرياُ. هؤلاء لا يجعلونه عصرياً، وإن ادعوا، بل يحيطونه ببعض المقولات والتفسيرات القادرة على صناعة ديمومته. فالعديد من الاصلاحيين ينطلقون من تغيير الهامش مع الابقاء على الثابت والجوهر، وتقديم ذلك على أنه "عصرنة الدين". فمحمد عبده "الاصلاحي" مثلا، لم يناقش بشكل جوهري الجذور، بل انه اعاد انتاجها، كما فعل في كتابه (التوحيد)، لكنه ذهب الى قضايا الهامش ففسرها تفسيرا "معاصرا"، مثل فرضية ان الجن هو تعبير قديم عن الجراثيم في العصر الحديث.

وفي كلا الحالتين، لا يتم النظر الى المجتمع، الانسان، الحياة المتغيرة... كأولوية. الدين هو الأساس، البشر والحياة يجب أن يفصّلا على أساسه. والسعي لجعله عصرياً، لدى البعض، ينم عن شعور بأنه الاولوية التي تحتاج الى بعض التعديلات. والحرص على الانسان الذي يتحدث عنه الاسلام السياسي ومنظرو التدين والاصلاحيون، يقصج ما حدده الدين من تعريف للبشر ومصالحهم بحسب زاوية النظر تلك.

لا اختلاف عند القول إن وجود الدين جزء من حياة الجماعات، وإن الحضارات القديمة والمتوسطة أوجدت لنفسها أديانا، سواء بشمولية الاديان التوحيدية أو بتعددية ما قبلها. إلا أن الحراك المستمر بإعادة انتاج الاديان او بإعادة تفسيرها حتى زمن انحطاط الحضارات المرتبطة بالأديان، بات مفقوداً منذ العصر الوسيط مسيحياً وسقوط بغداد اسلامياً، عدا استثناءات لأديان ولدت في ظروف معينة كالبهائية والسيخية. ولهذا تصبح المطالبة بالتصالح مع الدين، زاوية نظر خاطئة، لا تنظر الى الهوة الزمنية السحيقة بين الحضارات الدينية والمتغيرات التي صنعتها الحضارات الحديثة. فأهم أسباب الفهم المقلوب الوقوف في تلك الزاوية، ومحاولة تفسير الاشياء وتحديد المفاهيم عبرها. ولن يحصل فهم بديل الا بمغادرتها والذهاب الى زاوية أخرى تنظر الى الدين من خلال متغيرات الحياة الراهنة. فالمطالبة بالتصالح مع الدين الا إذا استطاع الدين ان يتصالح مع الواقع الراهن.

بالطبع، يبدو غير مجد مطالبة الاسلام السياسي بأن يجرب رؤية أخرى تتساءل عن قدرة الدين على التصالح مع الدولة، الحداثة، الديمقراطية، الحريات والحقوق والاحتياجات الاساسية... لأنه تيار باحث عن الدولة الدينية، ورؤيته تعتمد على هذه القاعدة المركزية. حيث ان التصالح مع التصورات الدينية يفترض بالضرورة قبولها، لأنها مصالحة مع موقف محسوم "القداسة" مسبقاً. ولأن الاسلام السياسي المعاصر يحاول أن يغلّف رؤيته بمعطيات المنجز الحضاري العالمي، اعتمد على فكرة أن الدين هو اختيار شعبي، وبهذا فإنه يعتمد المخاتلة، ليحدد خيارات الشعوب في المستقبل. فاختيار المجتمعات العاجزة عن التفكير الحر، أو التي لا تمتلك نخبة تنتج معرفة حرة، ليس اختيارا وحرية.

إلا ان الحريصين على "الدين"، سيجدون أنفسهم أمام بركان قابل للإنفجار في أي وقت. ضغط الحياة الراهنة وصخبها، الذي لا يلمس عقول المنظرين الدينيين، تقليديين أو اصلاحيين، يلامس المجتمع أو شرائح منه. اليوم يدفع الضغط الى قناعات متناقضة، فيعالجها البعض بالالحاد المتطرف، وهذا يمثل تمرداً لتحقيق انسجام وسلام مع متقضيات الزمن الراهن. وفي حالات أخرى أوسع انتشارا، تعتمد بعض الشرائح والافراد على تفسير فردي للدين، فنجد ان المرأة تنزع حجابها لكن تصلي، والرجل يشرب الخمر في كل ايام السنة ويصوم عنه في رمضان... ولهذا سيصاحب هؤلاء حالة من النفاق مستمرة، يمكن أن تتحول الى منهج في قيم الحياة.

الصراع الحديث بين الحضارة والدين، قوانين التغيير وثوابت التدين، لا يمكن أن يعالج بأن يتصالح "الحاضر" مع العودة الى الماضي، والا سيبقى النزاع مستمرا ويأخذ باستمرار طابعا دمويا. فالاديان ترفض ما يتعارض مع ثوابتها، الا إذا تغيرت بما يتلاءم مع ثوابت اللحظة. اي أن تتصالح مع المتغيرات، كي تستطيع المتغيرات قبولها واحتواءها. والدين ظهر كحاجة ضاغطة الانماط التقليدية، لكنه اليوم نمط تقليدي تصارعه مفاهيم ملحة ومتغيرات حيايتة طبيعية.