لاشك أن معظم مواطني منطقة الشرق الأوسط أملوا خيراً بتخلص العراق من الحكم الدكتاتوري، وعلى وعد أن تكون التجربة العراقية بعد ذلك مثالاً للتغيير المنشود في كل دول المنطقة، من حيث سيادة الديمقراطية وحقوق المواطنين المتساوية والتنمية الاقتصادية، غير أن الواقع لم يكن كما أملنا وكما تأمّل أبناء الرافدين، فقد ضربت الفوضى كل مفاصل الحياة، وغابت كل الأسس الصحيحة للديمقراطية، حتى أن قشورها التي برزت كانت تطل على استحياء، وإذ يُرجع البعض أسباب الخلل إلى نظام المحاصصة، فإن آخرين يرون أن استنكاف المكون السني عن المشاركة الفعلية في النظام السياسي الجديد، أو ما اصطلح على تسميته "العملية السياسية"، كانت السبب الأبرز، وقاد ذلك كله مع وجود إدارات غير خبيرة، إلى انفلات وحش الفساد الذي ابتلع ثروات تقدر بالمليارات، وإذا كنا نعرف الفاسدين بأسمائهم وعناوينهم، فإن الحفاظ على العملية السياسية المتهمة بالفساد منع ملاحقة هؤلاء ومحاكمتهم، واسترداد ما نهبوه من أموال الشعب العراقي.
لم تكن المرجعية ممثلة بالسيد السيستاني غافلة عن ما يجري، وقد نبهت مراراً وتكراراً، غير أن الفاسدين تمادوا في غيهم يعمهون، معتمدين على لامبالاة المواطن، الذي اكتفى بالتخلص من دكتاتورية وفساد القائد الأوحد الزعيم الملهم، ليجد نفسه تحت ظلم مئات القادة الملهمين، الضاربين على وتر الطائفية الشيعية والسنية على حد سواء، ليخلو لهم الجو فيمارسون ضلالتهم دون حسيب أورقيب، خصوصاً وأن الفساد استشرى حتى في المؤسسات المكلفة بمحاربته ومنع حصوله، ولنا في تجربتين ماثلتين خير دليل، الأولى تحويل دعوة السيستاني إلى الجهاد الكفائي ضد الإرهاب الداعشي إلى حرب طائفية بين الحشد وأبناء السنة، الذين يتعرضون لتعبئة مريضة يقودها سياسيون فاسدون، يشتركون في تقاسم كعكة الحكم ويطمعون بالمزيد، وارتباطاتهم معروفة ومكشوفة، مثلما هي ارتباطات بعض السياسيين الشيعة معروفة ومكشوفة، ولنا أن نُذكّر أن معمماً شيعياً عراقي الجنسية، أعلن على شاشة إحدى الفضائيات أنه سيحارب إلى جانب إيران، فيما لو خاضت حرباً مع العراق.
اليوم يتظاهر العراقيون الذين حكم الساسة باسمهم وتحت ظل مظلوميتهم، محاولين إعادة القطار إلى سكته، تتجاوب معهم حكومة حيدر العبادي ملتزمة بتوجيهات المرجعية، مع أن أبرز مطالب المتظاهرين يتمثل بالدولة المدنية الديمقراطية، وإذا كان السيد السيستاني ينادي بعدم إقامة دولة دينية، فإن بعض المعممين وغير المعممين وهم يستشعرون الخطر على مصالحهم، يأخذون على المتظاهرين مطلبهم هذا، على أنه من وجهة نظر ما يتمتعون به من امتيازات لايستحقونها يُعتبر مُسيئا للمذهب، مع أن المتظاهرين ينتمون لنفس الطائفة المحكوم باسمها، والمهمشة غالبيتها، والمهضومة حقوقها، والمدعوة للزيارات المليونية لمقامات آل البيت عليهم السلام، واعتبار ذلك مكسباً يغني عن الكهرباء والماء النظيف وسائر الخدمات، ويُغمض الأعين عن الحجم الهائل للفساد.
يبدو أن استنكاف معظم أهل السنة عن المشاركة في المظاهرات، المُكرّسة لمطالب العراقيين كافة دون تمييز، عائد& لارتباط قياداتهم السياسية بأجندات لاتأخذ بالاعتبار المصلحة الوطنية العليا، وربما لأن التحشيد الطائفي بلغ مداه وتغلغل في النفوس، بتشجيع من قيادات دينية مثقلة بالمشاعر المذهبية، ومسكونة بهاجس السيطرة والتفوق، أما الكرد فمنصرفون إلى مشاكل إقليمهم، وكأنهم غير معنيين بمصير وطنهم العراق، حتى وإن كانوا يسعون للاستقلال وإنشاء دولتهم القومية، رغم الخلافات الحادة بين قياداتهم على من تكون له اليد العليا، ناهيك عن تنافر الأحزاب وعدم اتفاقها على شكل الحكم المأمول في الإقليم، وقبل أن يتحول إلى دولة مستقلة، إن كان ذلك ممكناً.
المرحلة التي يمر بها العراق مفصلية، ليس على مستوى بلاد الرافدين فحسب، وتداعيات ما يحمله المستقبل ستكون مؤثرة على كل دول المنطقة، ولعل ما يجري اليوم أكثر أهمية من سقوط نظام البعث وأعمق تأثيراً على مستقبل المنطقه.
&