تشير عبارة "لحد"، ومشتّقاتها الرديفة إلى الشتيمة في لبنان، إذ تعني أعلى درجات الخيانة والعمالة لإسرائيل. مات أنطوان لحد، مصدر هذه التسمية على فراش المرض في فرنسا. نبأ موته ظلّ يتيماً، إذ ليس للرجل سوى المصادر الإسرائيلية لتنقل أخباره. بحسب ما نقلته الإذاعة الإسرائيلية، على لسان مراسلها للشؤون الدولية جدعون كوتس، وأضاف أن مراسم الجنازة ستتم بعد أسبوع في باريس، على أن ينقل جثمانه لاحقاً الى مسقط رأسه كفرقطرة في منطقة الشوف (جبل لبنان).
لفظ الرجل أنفاسه الأخيرة على سرير في مستشفى كأي عجوز، وتخلّص من تهيّؤات الموت برصاص مقاومين أو بتفجير أو حتى مسموماً، والتي لطالما خالجته وأخافته. موت هادئ مماثل لا يليق بقائد مليشيا عملاء إسرائيل في جنوب لبنان بين أعوام 1984 و2000. فليست هذه عادة نهاية "الأبطال"، باعتبار أنّ لحد أصرّ حتى آخر لحظات حياته على أنه "بطل" خانه الجميع، اللبنانيون والإسرائيليون وكل العالم.
تفاجأ الرجل بعد سنوات من العمالة والتعاون مع الاحتلال، أنّ صفة الخائن تلاحقه، وأنّ القضاء اللبناني أصدر بحقه حكماً بالإعدام. كل هذا يبدو مفهوماً باعتبار أنّ تعامل لحد مع الإسرائيليين نابع من قناعة وعقيدة أمّنتا له جيشاً وسلطة أحكم من خلالهما قبضته على أبناء الجنوب المحتلّ. إضافة للطموح اللامحدود إلى النفوذ والقوّة الذي يرافق كل من يرتدي بزّة عسكرية.
سار لحد على درب الإسرائيليين وجنّد معه آلاف الشبان اللبنانيين لملء فراغ جيش العدو على أرض الجنوب. ومنذ تلك اللحظة مات أنطوان لحد. أعلن موته بنفسه لحظة دخوله أحضان العدو بعد انشقاقه عن الجيش اللبناني (الذي كان ضابطاً فيه منذ عام 1952) في سبعينيات القرن الماضي. انضمّ لحد إلى ما يحلو للإسرائيليين تسميته "جيش لبنان الجنوبي" الذي سبق لسعد حداد أن أسّسه، وتسلّم قيادته بعد موت مؤسسه حداد. تولّى منذ ذلك الحين تنظيم جيش العملاء وعمله وإدارة معتقلاته واحتلاله لجنوب لبنان. فكان مرتبطاً بشكل مباشر بوزارة الحرب الإسرائيلية واستخباراتها العسكرية، وأخذ على عاتقه مهمة معاقبة الجنوبيين الرافضين للاحتلال.
مسيرة موت لحد استمرّت على وقع ضربات المقاومة لمواقع جيشه طوال فترة التسعينيات، إلى حين قرار الجيش الإسرائيلي الخروج من لبنان عام 2000. يقرّ لحد في مقابلات إعلامية وفي مذكراته بأنّ الإسرائيليين خدعوه. فقد قرروا الانسحاب من الجنوب من دون إبلاغه بالأمر، وتركوا جيشه يتخبّط في العمليات النوعية للمقاومة. سحب الإسرائيليون ضباطهم، وفي غضون ساعات أبلغوا عملاءهم بضرورة إخلاء المواقع والدخول إلى الأراضي المحتلة. كان لحد بعيداً يمضي إجازة في فرنسا، فيقول "لست نادماً، إنما بعد الانسحاب غير المبرمج أصبحتُ غاضباً على الدولة الإسرائيلية التي أعطت الأمر بالانسحاب المفاجئ واقتلعت أهل المنطقة الحدودية من أرضهم بشكل مذل".
دخل مع لحد أكثر من ستة آلاف لبناني، عسكريون وعملاء مع أسرهم. كانت هذه الهجرة المعاكسة إلى داخل فلسطين المحتلة، وحملت معها مصيبة تخلّي إسرائيل عن عملائها وعن إعالتهم، وهو الأمر المستمر حتى اليوم. الأمر الذي دفع العشرات من العملاء للعودة إلى لبنان وقضاء فترات محكومياتهم، في حين تمكّن المئات منهم من مغادرة إسرائيل إلى بلدان غربية.
حتى بعد موته، سيكون أنطوان لحد مصدر مشاكل للبنانيين، إذ ثمة من يقول إنّ جثمانه سيعود إلى بلدته كفرقطرة (في الشوف، جبل لبنان) برغبة من العائلة بغية تأبينه وتأمين "مدفن لائق له". لكن الجميع يعرف أنه غير مرحّب بعميل في أي مكان، حتى في فرنسا التي منعته سابقاً من دخول أراضيها نظراً لاتهامه بكونه "مجرم حرب".
مظاهرات لبنان الأخيرة التي شهدها الشارع اللبناني احتجاجاً على تراكم القمامة في شوارع العاصمة الجميلة بيروت، والتي حملت عنوان "طلعت ريحتكم" تحتج على كون البلد الغارق في الفساد والانقسام والولاءات الخارجية قد "فاحت" رائحته لدرجة لم يعد معها من الممكن العيش في جنباته، لكن مسألة دفن لحد في مسقط رأسه قد تطبع الحملة بخاتم الفعل، فهل تحول لبنان إلى "مزبلة" بالفعل حتى يضم ثراه رفات اكبر عميل لبناني للاحتلال الإسرائيلي؟
هشام منوّر... كاتب وباحث
&
التعليقات