شاركت قبل أسبوعين مع نخبة من الزملاء المتخصصين في العلوم السياسية والعلاقات الدولية في ورشة عمل حول العلاقات السعودية الروسية عقدت في موسكو ونظمها معهد الدراسات الدبلوماسية بالمشاركة مع جامعة موسكو للعلاقات الدولية والمجلس الروسي للشؤون الدولية. وشارك في الورشة من الجانب الروسي أكاديميون وخبراء وسفراء سابقون في الدول العربية وقدمت أوراق ناقشت العلاقات الثنائية وعدد من القضايا الاقليمية.
وظهر من خلال المناقشات اتفاق على أهمية تطوير العلاقات بين المملكة وروسيا الاتحادية وتأكيد على أنها بدأت خلال الاشهر القليلة الماضية تعود الى مسارها الصحيح بعد سنوات من الفتور نتيجة اختلاف المواقف تجاه الصراع في سوريا. ورأى المشاركون أن التطورات الاخيرة وخاصة زيارة صاحب السمو الملكي ولي ولي العهد وزير الدفاع الامير محمد بن سلمان تعطي دفعة جيدة للعلاقات لابد من استثمارها لاستعادة الحيوية بين الرياض وموسكو، وإعادة طرح مشروع الشراكة الاستراتيجية الذي تطمح له القيادتان منذ أكثر من عشر سنوات. فنحن اليوم بحاجة الى تكثيف التواصل مع روسيا على كافة المستويات وعدم تفويت الفرصة التي وفرتها زيارة ولي ولي العهد للارتقاء بالعلاقات الى مستويات متقدمة. لقد سمعنا من الجانب الروسي شيئا من العتب حول تأثر العلاقات الثنائية بتباين وجهات النظر حول القضايا الاقليمية ولا يزال هذا القلق لديهم ولذلك أظهروا تفاؤل حذر تجاه التطورات الاخيرة التي شهدتها العلاقات.
كان هناك اتفاق بين المشاركين في الورشة على ضرورة حماية العلاقات الثنائية ضد أي تأثير سلبي للخلاف حول القضايا الاقليمية انطلاقاً من أهميتها القصوى بالنسبة للبلدين بالنظر الى مكانتهما الاقليمية والدولية ودورهما القيادي في أسواق الطاقة. فالخلاف حول قضايا المنطقة أمر قائم ومتوقع أن يتكرر في المستقبل بالنظر الى الطابع المتأزم لمنطقة الشرق الاوسط، الا أن هذا يجب أن لا ينعكس سلباً على العلاقات الثنائية؛ فالمملكة تحتاج لروسيا كونها إحدى القوى الرئيسة في النظام الدولي وتتمتع بمقعد دائم في مجلس الامن، كما أن روسيا بحاجة للملكة لمكانتها في العالم الاسلامي ومركزية المسلمين وقضاياهم داخل الدولة الروسية. كما أن الرياض وموسكو تشتركان في عدد من الرؤى الاستراتيجية التي تحتم علاقة قوية بينهما؛ فهما يتفقان على أولوية أمن واستقرار المنطقة حيث أن أي خلل في المنطقة ينعكس على الامن الوطني للدولتين، كما أنهما يشتركان في رؤية استراتيجية تجاه تأكيد الشرعية الدولية وتوزان القوى ورفض الاحادية واحترام المؤسسات الدولية والتعددية الثقافية، وأخيراً تتفق المملكة وروسيا على استقرار أسواق الطاقة حيث يعتمد اقتصاد الدولتين بشكل كبير على مبيعات النفط والغاز.
ونعيد التأكيد مرة أخرى على أن العلاقات الثنائية مهمة في ذاتها ومن الضروري تحصينها ضد أي انعكاسات سلبية لتباين وجهات النظر حول قضايا المنطقة. ولنا في العلاقات السعودية الامريكية والعلاقات الروسية التركية أمثلة على أهمية المحافظة على علاقات ثنائية قوية رغم الاختلاف في المواقف تجاه قضايا المنطقة. فخلاف المملكة مع الولايات المتحدة على القضية الفلسطينية لم يؤثر في شراكتهما الاستراتيجية، كما أن الخلاف بين روسيا وتركيا حول الصراع في سوريا لم يمنعهما من تعميق علاقاتهما الثنائية.
لقد لاحظ المشاركون أن مستوى العلاقات الاقتصادية لا يرقى لحجم التطلعات والامكانات فهي لا تزال محصورة في تبادل تجاري محدود لا يتجاوز المليارين دولار شبه غياب للاستثمارات المشتركة. وبالإضافة الى المعوقات البنيوية –اذا صحت التسمية- بالنظر إلى&تشابه اقتصاد الدولتين من حيث الاعتماد على مبيعات المواد الخام وشبه الخام وكذلك ضعف القدرة التنافسية للمنتجات الروسية، فإن تباين وجهات النظر تجاه القضايا السياسية يلقي بضلاله على التعاون الاقتصادي وهو ما يحول دون بناء أرضية صلبة للعلاقات رغم مرور ربع قرن على استئنافها. وفي هذا الشأن تحديداً ومن منطلق الشفافية نرى أن الصعوبة التي يشاع أنها تواجه عقد صفقة عسكرية يمكن تجاوزها من خلال شراكة اقتصادية لا يشوبها أي حساسية أو عوائق عمادها خطة طويلة الأمد لاستيراد القمح والشعير الروسي حيث تتزايد احتياجات المملكة من هذه المحاصيل التي تعد روسيا في مقدمة أكبر الدول المنتجة لها.
وتقتضي الموضوعية هنا الاشارة الى عوائق إدارية وذهنية تحول دون تطوير العلاقات وتتمثل في (1) "العجز البيروقراطي" الذي يحول دون ترجمة إرادة القيادة في الدولتين الارتقاء بالعلاقات من خلال تحويل اتفاقيات التعاون في مجالات مختلفة المختلفة الى واقع ملموس و(2) رصيد من الانطباعات والصور الذهنية السلبية المتراكمة تاريخياً والتي تحملها النخب في الدولتين تجاه بعضهما البعض وتجعلهما يعجزان عن رؤية المشتركات الاستراتيجية التي تحتم الانتقال بالعلاقات الى مستويات متقدمة وعدم الاكتفاء بعلاقات دبلوماسية تقليدية. هذه الصورة الذهنية يسهل معالجتها ويمكن تجاوزها من خلال حوار منهجي شفاف ومتواصل.
في الختام لابد من التأكيد على أننا اليوم أمام فرصة مهمة جداً لإعادة العلاقات لوضعها الطبيعي ويجب الحرص على عدم تفويت هذه الفرصة سواء كان بسبب الانشغال بتباين وجهات النظر حول القضايا الاقليمية أو تباطؤ الأجهزة الحكومية المعنية بتنفيذ الكم الكبير من الاتفاقيات التي تم توقيعها مع روسيا.
ورغم أن الرياض وموسكو تتفقان على أهمية محاربة الارهاب وبذل جهود مشتركة للتصدي للتنظيمات الارهابية، إلا أنهما تختلفان حول مسبباته ومن ثم سبل مكافحته. كما أن اتفاقهما على ضرورة بقاء مؤسسات الدولة لم يمكنها من الوصول الى موقف مشترك&حول موقع بشار الاسد خلال العملية الانتقالية. وبلاشك فإن جميع هذه مسائل مهمة وقد يرى كل طرف صحة موقفه، ولكن المؤكد هو أن العلاقات الثنائية مهمة جداً ما يستوجب الحرص على عدم إلحاق ضرر بها بسبب هذه الاختلافات المشروعة. الصراع في سوريا خطير على مستوى المنطقة، الا أنه ليس القضية الاولى التي تجمع المملكة وروسيا وتحتم علاقات ثنائية متقدمة.
نحن اليوم بحاجة الى تكثيف التواصل على كافة المستويات الرسمية وغير الرسمية وتفعيل دبلوماسية المسار الثاني وتجنب حدوث خيبة أمل جديدة قد تشكل عائقاً إضافياً ً أمام تطور العلاقات. وهنا لابد من التنويه بدور السفارة السعودية في موسكو في دعم العلاقات ووجود السفير النشط الاستاذ عبدالرحمن بن إبراهيم الرسي المؤمن بأهمية العلاقات والحريص على تنميتها وهو ابن الدبلوماسية السعودية والمتمرس في دهاليزها والذي يستحق كلمة شكر وتقدير لما قدمه من تسهيلات للوفد السعودي منذ وصوله وحتى مغادرته موسكو.
استاذ العلوم السياسية بجامعة الملك سعود
التعليقات